للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين)]

قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:٧٤]، أي: يدعون {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:٧٤]، هذا دعاؤهم يدعون ربهم، وقد دعوا قبل ذلك فتعوذوا بالله من النار فقالوا: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:٦٥]، ودعوا فسألوا ربهم سبحانه من فضله ومن رحمته دعاء ينفعهم في الدنيا وفي الآخرة، وما أجمل هذا الدعاء! {رَبَّنَا هَبْ لَنَا} [الفرقان:٧٤]، أعطنا من فضلك ومن كرمك، وامنحنا وهب لنا أي: اجعل {لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:٧٤].

وقوله: {وَذُرِّيَّاتِنَا} [الفرقان:٧٤] فيها قراءتان: قراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وابن عامر وحفص ويعقوب، فهؤلاء يقرءون: {وَذُرِّيَّاتِنَا} [الفرقان:٧٤] على الجمع، وقراءة باقي القراء أبي عمرو وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: (وذريتنا قرة أعين) على الإفراد، والذرية: هم الأبناء والأحفاد، وذرية الإنسان: ما خلق الله عز وجل من نفسه، وأصلها: من الذر، والذر: البث والنشر، فما كان من الإنسان من أولاده وأحفاده فيسمون: ذرية، فعباد الرحمن يدعون بالدعاء الذي ينتفعون به في الدنيا وفي الآخرة: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:٧٤]، وقرة العين من القرور أو من القر، والقر: البرد، والقرور: الاستقرار، فكأنهم أرادوا المعنيين: اجعل لنا من الأزواج ومن الذرية ما تقر به أعيننا، أي: يجعل العين فيها قرة وبرودة، والإنسان الحزين تكون دمعة حزنه حارة، وإذا بكى من الفرح كان بكاؤه بارداً، فكأنهم يقولون: ربنا أفرحنا بطاعتهم لك سبحانك، وطاعة الأزواج، وطاعة الوالدين، واجعلهم مطيعين فنفرح بهم، فنرى أولادنا يحفظون كتاب الله عز وجل، ويحافظون على شرع الله سبحانه، ويقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيفرح المؤمن بزوجته وأولاده ويسر حين ينظر إليهم، فهم يطيعون الوالدين، والزوجة تطيع زوجها طاعة لله سبحانه وتعالى، فتقر أعين عباد الرحمن بهذه الطاعة لله سبحانه وتعالى، فانتفعوا بهم في الدنيا وفي الآخرة ينتفعون بهم أيضاً، فإن حفظ الأولاد كتاب الله سبحانه وتعالى يكسى الوالدان من حلي الجنة بسبب حفظ أولادهم لكتاب الله عز وجل، وقد يكون الأولاد والذرية لهم درجات عالية رفيعة عند الله عز وجل فيشفعون في آبائهم ويرتفعون إلى درجاتهم بهذا الأمر، فالله عز وجل يجعلهم مصدر سرور لهم في الدنيا، ومصدر فرح وحبور في الآخرة.

وأيضاً الإنسان المطمئن الفرح عينه قارة، والإنسان الحزين والخائف عينه غير مستقرة ينظر شمالاً ويميناً وهو متحير، فهم يدعون الله عز وجل أن يثبتهم، وأن يقر أعينهم ويجعلها قارة فرحة مستبشرة بذلك، فيقولون: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:٧٤]، يقول الإمام القرطبي رحمه الله: وذلك أن الإنسان إذا بورك له في ماله وولده قرت عينه بأهله وعياله، ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم لـ أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة عظيمة مباركة فقال: (اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه)، فكان أولاده وأحفاده يتجاوزن المائة.

والأولاد الكثيرون إن كانوا مطيعين لله عز وجل ينتفع الأب والأم بهم، وهذه من البركة فيهم، يقول العلماء: الإنسان إذا بورك له في ماله وولده قرت عينه بأهله وعياله، وإذا كانت عنده زوجة اجتمعت له فيها أمانيه من جمال وعفة ونظر وحوطة، فالزوجة من صفاتها التي تعجب الإنسان أن تكون مقبولة جميلة عنده، وأن تكون عفيفة، وأن تطيعه إذا أمر، وأن تخاف أن يغضب عليها، فإن غضبه قد يكون منه غضب الله سبحانه وتعالى، وتكون فيها حوطة تحوط أهلها بالخير، تحوطهم بالحنان، وبالرأفة، وبالرحمة، وبالرعاية، وتحوط بيتها فهي راعية في مال زوجها، (وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).

ومن فائدة الذرية الطيبة: أنهم يعينون الوالدين على طاعة الله عز وجل، ويعينونهم في أمر الدنيا وأمر الآخرة، فإذا كان الإنسان على هذا الحال لم يحسد الناس ولم يلتفت إلى زوج أحد ولا إلى ولده، واستقرت عينه، فعباد الرحمن يسألون الله عز وجل أن يجعل في أزواجهم وذريتهم ما يكفيهم وما يغنيهم عن أن ينظروا إلى الناس ويحسدوهم، فالمؤمن تسكن عينه عن الملاحظة، ولا تمتد عينه إلى ما ترى، وذلك حين قرت العين وسكنت النفس.

ثم قال: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:٧٤]، وهذا من الدعاء العظيم الجميل، وأن يكون الإنسان إماماً لأهل التقوى، وليس إماماً لعموم الناس، ولكن للمتقين، وهذه درجة رفيعة عالية جداً للإنسان، وليس معناها أن يكون إماماً في الصلاة، وكم من المتقين من لم يكن من أئمة الصلاة، كأئمة المسلمين مالك والإمام أحمد والإمام الشافعي والإمام أبي حنيفة وغيرهم من أئمة المسلمين، فلم يكونوا أئمة في الصلاة، فالإمامة هنا إمامة الدين، الإمامة في الزهد، الإمامة في التقوى، الإمامة في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فيقولون: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:٧٤].

جاء في الموطأ: أن عمر رضي الله عنه قال لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه: إنكم أيها الرهط! أئمة يقتدى بكم، قال هذا عمر لما رأى طلحة بن عبيد الله محرم في شملة مزخرفة أو حمراء، فأنكر عليه عمر رضي الله عنه ذلك، وقال: يقولون: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس ذلك، فحرج عليه ألا يلبس ذلك، وقال: إنكم أئمة يقتدى بكم.

وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول في دعائه: اللهم اجعلنا من أئمة المتقين.

فالإنسان المؤمن يدعو أن يكون إماماً للمتقين، {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:٧٤]، ولم يقل: أئمة؛ لأن (إماماً) هنا مصدر، فالمصدر يأتي في الإفراد وفي الجمع على هيئة واحدة، فكأن المعنى: أئمة نؤم المتقين ونكون أمامهم عند الله سبحانه ومقربين ويقتدى بنا في الدنيا ونتقدمهم يوم القيامة.

يقول القشيري: الإمامة بالدعاء لا بالدعوة.

يعني: أن الإنسان يكثر دعاء ربه سبحانه وتعالى، والتبتل بين يديه، والابتهال لله عز وجل، فيقربه الله عز وجل ويجعله إماماً يقتدى به في الخير.

وكم من إمام يؤم الناس في الصلاة ولا يقتدى به ولا يصدق له في الأمر، وكم من إنسان مغمور بين الناس ليس مشهوراً ولكن أهل التقوى ينظرون إليه أنه من أهل الزهد وأنه من أهل العفة، وأنه من أهل الله سبحانه وتعالى، فهؤلاء الأئمة الذين تعرفهم ملائكة الله عز وجل وتصلي عليهم وتدعو لهم.

يقول إبراهيم النخعي: لم يطلبوا الرياسة بل دعوا أن يكونوا قدوة في الدين.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: اجعلنا أئمة هدى.

وقال مكحول: اجعلنا أئمة في التقوى يقتدي بنا المتقون.

فالإنسان المؤمن يدعو ربه سبحانه أن يجعله صالحاً، وأن يجعل الناس يقتدون به، وإذا اقتدى به الناس فكل عمل طيب يعمله ويعمله الناس يكون له أجر فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء).

إذاً: الذي يفعل الفعلة الحسنة ويتقرب بها إلى الله ويقتدي به الناس فيها يكون له أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>