وممن كان يضرب به المثل في الفراسة المعتضد أحد خلفاء بني العباس، فقد كانت له عجائب في الفراسة، فكان يتفرس في الشيء فيكون على النحو الذي رآه.
ومما يذكرون عنه: أنه كان جالساً يشاهد الصناع، فرأى فيهم عبداً أسود منكر الخلقة، شديد المرح، يعمل ضعف ما يعمل الصناع، فيبني بناء ثم يجلس ينظر إلى العمال.
فقال لبعض جلسائه: أي شيء يقع لكم في أمره؟ أي: ما رأيكم في هذا الشيء، فقالوا: من هذا حتى تصرف إليه نظرك؟ قال: لقد رأيت فيه أنه لا يخرج من حالين، فإما أن يكون معه دنانير قد ظفر بها أو أنه يتستر بالعمل من أجل أن يسرق.
فدعاه، ودعا بالضراب فضربه، وحلف له إن لم يصدقه أن يضرب عنقه، فلما هدده اعترف الرجل وقال: لي الأمان؟ فقال: نعم إلا فيما يجب عليك بالشرع، وهذا من ذكائه، فقال: كنت أعمل في الآجر -أي: في الطوب- فاجتاز رجل في وسطه هيمان، فجاء إلى مكان فجلس فيه، فحل الهيمان وأخرج منه دنانير، فقتلته، ثم حملته على كتفي، فطرحته في الفرن، فأحرقته، ثم أخرجت عظامه، فطرحتها في دجلة.
فأنفذ المعتضد من أحضر الدنانير وإذا مكتوب عليها، فلان بن فلان، فعرف صاحبه، فجاء بامرأته، فقالت: هذا زوجي، ولي منه هذا الطفل، خرج وقت كذا وكذا، ومعه ألف دينار، فغاب إلى الآن، فسلمها الدنانير، وأمرها أن تعتد من زوجها، وأمر بضرب عنق هذا الأسود، ثم حرقه كما حرق صاحبه.