للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع والله يرزق من يشاء بغير حساب)]

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله عز وجل في سورة النور: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:٣٦ - ٣٩].

ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات رجالاً لا تلهيهم التجارة والبيع عن المجيء إلى بيوت الله سبحانه، ولا تشغلهم الدنيا عن رحمة رب العالمين، ولا عن حب الله وطاعته سبحانه.

{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور:٣٦] أي: في الصباح والمساء، ففي كل وقت يسبحون الله سبحانه ويصلون طائعين، فهم رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.

فالمؤمنون الصالحون الذين يعرفون حق الله سبحانه وتعالى يعبدونه ولا يشركون به شيئاً، فأقبلوا بقلوبهم ووجوههم عليه، وأتوا إلى المساجد حين سمعوا النداء، وحرصوا على صلاة الجماعة، وتعلقت قلوبهم بالمساجد فلا تلهيهم تجارة ولا بيع.

ولعل المقصود بالتجارة التي تقدم عليهم من خارج البلد، والبيع: التجارة الحاضرة التي بينهم.

فلا يلهيهم الشيء البعيد الذي يتشوق الناس إليه، وينتظرونه، ولا الشيء القريب الذي هو في متناول أيديهم شغلهم عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فهم في ذكر لله سبحانه وتعالى دائماً، فإن كانوا في تجاراتهم فهم في ذكر لله.

وقد اختلف العلماء في قوله سبحانه: {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاة} [النور:٣٧] فقال بعضهم: (عن ذكر الله) يعني: الأذان، فكأنهم يسمعون الأذان ويرددونه، ويأتون إلى المساجد حين يسمعون النداء.

وقيل: حضور الصلاة.

وقال ابن عباس: عن الصلاة المكتوبة.

وقيل: عن ذكره بأسمائه الحسنى، فيوحدونه ويمجدونه بها.

وقيل: نزلت في أهل الأسواق، قال سالم: جاز عبد الله بن عمر رضي الله عنه في السوق وقد أغلق الناس حوانيتهم وقاموا ليصلوا في جماعة، فقال فيهم نزلت: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:٣٧].

والغرض: أن ذكر الله أعم من أن يكون الصلاة أو غيرها، فذكر الله سبحانه في قلب الإنسان المؤمن، وعلى لسانه في كل حين، فلا ينشغل عن الذكر وهو يبيع؛ لأن ذكر الله عز وجل في قلبه وفي عقله، فهو يخاف من الله ولا ينساه أبداً، فلا يغش في بيعه، ولا يخون، ولا يطفف في الكيل، ولا في الميزان، ولا يخدع، ولا يدلس ولا يغبن، ولا يفعل فعلاً يسخط الله عز وجل عليه، فهو بذلك ذاكر لله لا ينساه: لا في بيعه، ولا في تجارته، ولا في مشيه، ولا في بيته ليل نهار.

وهذا الإنسان المؤمن يلهمه الله عز وجل ذكره، فإذا به يستمتع به، فإذا أكل قال: بسم الله، وإذا دخل بيته قال: بسم الله، وإذا مشى وهو في الطريق سمى الله سبحانه، ويذكر الله عز وجل في أبسط ما يكون من ذكر الله، فكيف إذا قرأ كتاب الله سبحانه، وذكر الله بكلام الله سبحانه؟! وكذلك لا ينشغل عن إقام الصلاة، فيحضرها عند إقامتها، ويحرص على تكبيرة الإحرام مع الإمام، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق)، ويحرص الصف الأول.

فإذا صلى أقام صلاته فأحسنها ولم يسئ فيها، ولم ينقرها نقر الغراب، ولم يصل صلاة الإنسان المتلهف على الدنيا، المسرع إليها المفرط في الصلاة.

كذلك لا يلهيه البيع ولا التجارة عن إيتاء الزكاة، وكم من إنسان يكون معه مال، ويخاف إن أخرج الصدقة أن ينقص المال، فيبخل ويشح ويضل، فإذا أتى عليه وقت الزكاة بدأ يفكر هل يخرج الزكاة دفعة واحدة أو على دفعات وأقساط؟! وكأنه يشح ويظن على ربه سبحانه، وكأنه يستكثر أن يعطي الفقير المال جملة واحدة، وقد يخشى إن أعطاها الفقير أن تضيع منه!! فيقال لمن هذا حاله: أنت لم ترسل حافظاً على الفقير، ولا حسيباً عليه، ولكن الله عز وجل أمرك أن تخرج زكاة مالك في وقتها.

لكن لو أن إنساناً أخرج جزءاً قبل وقته لحاجة الناس، فلا مانع من ذلك، وأما إذا جاء وقت الزكاة فصار عليك إخراجها فرضاً، فإذا أخرتها صارت ديناً عليك، فإذا قسطته شيئاً فشيئاً كان ديناً عليك تسدده بالتقسيط، ولا تدري لعلك تموت قبل تسديده كاملاً ولا يخرج ما بقي عنك أحد، فيضيع عليك الأجر في الدنيا، وعليك الوزر في الآخرة؛ لأنك منعت زكاة المال.

فهؤلاء لا يلهيهم البيع، ولا تلهيهم التجارة عن ذكر الله، ولا عن إقام الصلاة، ولا عن إيتاء الزكاة، فيفعلون كل ذلك مخافة الله سبحانه وتعالى.

قال تعالى: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:٣٧] أي: يخافون يوماً عظيماً خطيراً، ونكّره الله سبحانه وتعالى معظماً لشأنه، والتقدير: يخافون يوماً وأي يوم يكون هذا اليوم؟ إنه يوم عظيم.

{يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:٧] أي: الشر فيه منتشر وعظيم، وشر هذا اليوم ما يكون فيه من عذاب وأهوال.

وفي هذا اليوم يقوم الناس خمسين ألف سنة ينتظرون أن ينتهي بهم هذا الموقف إما إلى الجنة، وإما إلى نار.

ومن شدته يقول بعض الناس: يا رب! اصرفنا ولو إلى النار، ويظنون أن النار أهون عليهم من هذا الموقف، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

قال تعالى: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:٣٧] أي: تتحول قلوب الناس عن أماكنها، وهذه الآية مثل قوله تعالى: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} [غافر:١٨] فالكفار يوم القيامة لا يطمئنون أبداً فهم في غاية الفزع، وقد كانوا في الدنيا مطمئنين وهم يعصون، ولك أن تتخيل إنساناً في شدة الفزع يقول: قلبي، وهذا في فزع الدنيا وهو فزع خفيف، وأما فزع يوم القيامة فلا نجاة منه، بل تتحول فيه القلوب عن أماكنها.

وكذلك تتقلب وتتحول فيه الأبصار، فإذا ببعضهم قد ازرقّت أبصارهم، قال تعالى: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:١٠٢] أي: عيونهم زرقاء وألوانهم سوداء، وذلك أقبح ما يكون في الإنسان.

وكذلك تعمى أبصارهم يوم القيامة والعياذ بالله.

وكذلك تتحير الأبصار فتصير عينا الإنسان المفزوع زائغتين، فتتقلب شمالاً ويميناً يبحث عن منجى وملجأ فلا يجد ملجأً، ولا منجىً من الله إلا إليه.

وإذا دخلوا النار تقلبت قلوبهم وأبصارهم في نار جهنم.

وأما المؤمنون فيعصمهم الله سبحانه وتعالى وينجيهم، نسأل الله العصمة والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

قال تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [النور:٣٨]، فالمؤمن يجزيه الله سبحانه أفضل ما عمل.

وأصل الجزاء يوم القيامة أن يكون على الإحسان في الدنيا وعلى الإساءة، لكن لأنهم كانوا مؤمنين، واجتنبوا كبائر الذنوب، غفر الله لهم صغائر ذنوبهم وتجاوز عنها، قال سبحانه: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:٣١].

بل يبدل سيئاتهم حسنات من فضله وكرمه سبحانه وتعالى.

قال تعالى: {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:٣٨]، وهذا كقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:٢٦]، فالزيادة النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى.

قال تعالى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:٣٨] فلا أحد يطلب من الله عز وجل شيئاً وهو مخلص لرب العالمين سبحانه، راجٍ له إلا أعطاه الله سبحانه.

فالله هو الغني بذاته، فيرزق من يشاء في الدنيا وفي الآخرة ولا أحد يجبر الله عز وجل أن يعطيه شيئاً، وإذا أراد أن يضيق على أحد فلا أحد يغالبه سبحانه.

فهو يعطي من يشاء على الحسنة عشر أمثالها، وعلى الحسنة مائة مثل أو سبعمائة مثل، أو بغير حساب، أي: من غير عد.

وقوله تعالى: (بغير حساب) لها معنيان: الأول: بغير خوف أن ينفد ما عنده؛ فإن خزائنه ملآى لا تغيظ أبداً.

والثاني: أن يرزق عبده بغير أن يحاسبه، والله يفعل ما يشاء، وقد يدخل أناساً من المؤمنين جنته من غير أن يحاسبهم على شيء، بل يغفر لهم ويدخلهم جنته بفضله ورحمته.

<<  <  ج:
ص:  >  >>