[تفسير قوله تعالى: (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون)]
هؤلاء الكفار المشركون هل {تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} [الفرقان:٤٤]، أي: يسمع سمعاً ينفعه، فيعي ويفهم ويتأمل ويتدبر، حتى يتعلم، ويعلم الحق، بل إنهم يسمعون الكلام والتلاوة لكنهم لا يسمعونها سماع من يبتغي الحق.
قال: {أَوْ يَعْقِلُونَ} [الفرقان:٤٤]، أي: يتفكرون ويتدبرون ما جاء من عند رب العالمين، فهم كذلك لا يفعلون ذلك.
قوله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ} [الفرقان:٤٤]، هي قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة وأبي جعفر: بفتح السين، وباقي القراء يقرءونها: (أم تحسِب) والمعنى واحد.
{أَنَّ أَكْثَرَهُمْ} [الفرقان:٤٤]، ولم يقل: كلهم {يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} [الفرقان:٤٤]؛ لأن الله قد علم أن منهم من سيسمع ويعقل ويدخل في هذا الدين، وقد كان دخل منهم الكثير في دين الله سبحانه، لكن الأكثرون يسمعون ولا يعقلون، ينظرون إلى الآيات ولا يفهمون ما فيها ولا يحاولون ذلك، يقول الله سبحانه: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ} [الفرقان:٤٤]، يعني: في حال سماعهم، وعدم تفكرهم، وعدم تعقلهم، إن هم إلا كالبهائم.
والأنعام خلقها الله سبحانه وتعالى ولم يجعل لها عقولاً تفهم بها كعقول الآدميين تخاطب، ولكنها عرفت ربها سبحانه فسبحته بحسب ما علمها سبحانه وتعالى، وفضل الإنسان بالعقل الذي يفهم ويعي ويتدبر ويتفكر به ومع ذلك لا يعقلون، ولا يفهمون عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فأيهما خير، البهائم التي لم يعطها الله عقلاً أم هؤلاء الذين لهم عقول وهم لا يسمعون ولا يعقلون؟ قال سبحانه: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ} [الفرقان:٤٤] أي: أنهم أشد من الأنعام وأقبح {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:٤٤].
فبهيمة الأنعام إذا قدتها في طريق مرة أو مرتين عرفت طريقها، أما هؤلاء فلا يحاولون أن يفهموا ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم مع كثرة ما يكرره عليهم صلوات الله وسلامه عليه، فكانوا يقفون له بالمرصاد، ويكذبونه، ويحذرون الناس منه، حتى أن البعض من الناس كان من كثرة ما يسمع من هؤلاء يدخل إلى مكة وقد جعل أصابعه في أذنيه حتى لا يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ويأتي أحدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: والله ما جئتك حتى حلفت بعدد أصابعي ألا آتيك، يعني: من شدة تحذير الكفار لهؤلاء فقد كانوا يقولون للرجل لا تذهب إلى محمد ولا تستمع منه، ويحلفونه على ذلك مرة ومرتين وأكثر، فهم يصدون الناس هذا الصد الشديد عن سبيل الله وهم لا يفهمون ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يحاولون ذلك، فهم كالأنعام {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:٤٤].
يقول مقاتل: البهائم تعرف ربها، وتهتدي إلى مراعيها، وتنقاد لأربابها التي تعقلها.
فصاحب البهيمة يجيء ليربط البهيمة فتقف له حتى يربطها، ويسوقها فتنقاد له، ومعنى أنها تنقاد لأربابها التي تعقلها أي: التي تربطها، أما هؤلاء المشركون فلا ينقادون ولا يعرفون ربهم الذي خلقهم ورزقهم، وإن عرفوا ذلك وأقروا به لم يعبدوه، فلم تنفعهم المعرفة.
وقيل: لأن البهائم إن لم تعقل صحة التوحيد والنبوة فهي لم تعتقد كفران ذلك، ولكن الأولى أن يقال: إن البهائم عرفت ربها سبحانه لما جعل فيها من معرفة، وأمرها سبحانه فسبحت بحمده كما أمرها سبحانه وتعالى، قال الله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:٤٤].
فالبهائم تعرف ربها وتسبحه سبحانه وتعالى، وإذا جاءت يوم القيامة شكت إلى ربها سبحانه سوء صنيع أربابها، وما صنعوا بها من عدم إطعامها وإشرابها، ومن إساءة معاملتها، بل ويقتص للبهائم يوم القيامة، فيقتص للجلحاء من ذات القرن، ثم يأمر الله الأنعام فتصير تراباً.
أما الإنسان الذي فهم وعقل فإنه يأتي يوم القيامة وينظر إلى الأنعام كيف يقتص لبعضها من بعض، وكيف أن الله يأمرها بأن تكون تراباً، {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:٤٠]، وهيهات أن يكون ذلك.
فقد خلقه الله لعبادته، وحذره من معصيته، وحذره من الشرك به، حذره من النار التي يخلد فيها المشركون ولا يزولون عنها، فأبى إلا أن يعصي وأن يشرك بالله، فكان جزاؤه أنه في الدنيا {كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:٤٤]، فهم في تحير في الدنيا وتخبط، ويوم القيامة في النار، والعياذ بالله.