[موقف المترفين من دعوة الرسل]
قال تعالى: {وكذلك مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:٢٣]، أي: أن التقليد ليس شيئاً جديداً، ولكنها عادة السابقين، وعادة أهل الباطل، فهو لا يريد أن يترك الباطل؛ لأنه مترف ومنعم وكبير بين قومه، فكيف يترك هذا الشيء لكي يكون وراءك؟ وبعد أن كان هو متبوعاً يصير متبعاً! قوله: (فِي قَرْيَةٍ) المراد بالقرية: البلد، والقرية من القري، والقري الجمع، وكأنه المكان الذي يجتمع فيه الناس، وكلمة (قرية) وإن كنا نطلقها على الريف، لكنها لغة تطلق على المدينة، وعلى البلد العظيم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان من أهل القرى أي: مكة.
والمقصود: أن الله يخبر عن الرسل، وأنه ما من رسول يرسله الله عز وجل إلا ويكون من أهل القرى، يعني: من أهل البلدان، ومن أهل المدن، ليس من الريف أو البادية، وطباع أهل المدينة غالباً مع كثرة الناس والاحتكاك، تكون فيهم ذوقيات، وفيهم رجوع لرأي الأغلب، أما أهل البادية ففيهم الغلظة، وفيهم الشدة، وبعدهم عن المدينة، وبعدهم عن الناس يجعل كل إنسان يحس أنه لوحده ملك، وأنه لا شأن ولا أمر لأحد عليه، وهذا بعكس الاجتماع مع الغير، فإنه يهذب الأفكار، وينقي الآراء، وعندما تكون في مجموعة من الناس تتكلم، والثاني يرد عليك، والثالث يصوب الرأي، وهذا هو الحاصل في المدينة، أما في الريف: فيعيش الإنسان وحده في مزرعته، وفي حقله، بين غنمه وإبله، فيكون أغلب وقته مع هذه البهائم، فيحتاج لمن ينقي له عقله وتفكيره، ويتناقش معه ويصوب له آراءه؛ لأن المنفرد دائماً يظن أن رأيه الصواب؛ فلذلك قال تعالى: {(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:١٠٩]، وأهل القرى يكون الناس كلهم يعرفونه ويرونه، أما إذا أتى لهم من البادية فسيقولون: لا أحد يعرفك، فمن أنت؟ من الذي كان معك؟ من يشهد لك؟ ولذلك من ضمن الأحكام التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنها لا تقبل شهادة بدوي على حضري)، لأن البدوي مقيم في البدو، وفجأة جاء يشهد ويقول: أنا رأيت فلاناً يقتل فلاناً.
أين رأيته؟ فأنت الآن أتيت من البادية، فالكلام الذي يقوله محل نظر، أما إذا ثبت أنه عاش بيننا فترة، فنقول: شاهد، لكن أتى من هناك وجاء ليشهد، فهنا الشهادة لا تكون إلا من إنسان قد شاهد فعلاً، وإنسان موجود وسط الناس، بحيث نصدق ما يقول هذا الإنسان ونجد من يزكيه، فهذا الرسول الذي يكون من أهل القرى يجد من يزكيه من الناس، ويقولون: هو طول عمره مقيماً بيننا، فنرى منه الصواب، ونجد منه الرأي السديد، والنصح لنا، هو أمين بيننا، فهنا أهل القرى باجتماعهم يعرفون هذا الإنسان، ويمحصون ما يقول، فيشهدون له بصواب ما يقول، أو يخطئون ما يقول.
فقال الله عز وجل: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) ينذرهم بعقوبة الله عز وجل، إذا أصروا على معصيته، وعلى الشرك به سبحانه وتعالى.
قوله: (إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا) الغالب في الذين يصدون عن الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام والدعاة إلى الله: هم المترفون، أي: الرؤساء والوزراء والكبراء من القوم؛ لأنهم وصلوا إلى ما هم فيه من الملك والسيادة، فلا يريدون أن يتزحزحوا عنه، ولا يريدون أن يتركوه، وإنما يريدون أن يبقوا فيه دائماً، فإذا جاءهم نبي أو رسول يدعوهم إلى الله، فإن أحدهم ينظر إلى نفسه ويقول: بعدما كنت أنا الرئيس وأنا الوزير وأنا الكبير، تأتي أنت فتقول لي: اعمل واعمل، وأكون تابعاً لك! فيرفضون الانقياد لدعوة الإسلام، وكأن تنعم الإنسان في النعم يدفعه إلى الغرور، وإلى الكبر، وإلى البعد عن طاعة غيره، فهو لا يريد أن يسمع لغيره، فقد صار كبيراً في نظر نفسه، وقد عرف ذلك هرقل عندما سأل أبا سفيان عندما كان عنده: أضعفاء الناس يتبعونه أم أغنياؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم وأبو سفيان فرح بهذه الإجابة، وكأنه يقول لـ هرقل: إنه لا يتبعه إلا حثالة الناس، والضعفاء منهم.
فقال هرقل: وكذلك أتباع الرسل.
وهو صادق فيما يقول، فقد كان رجلاً واعياً عاقلاً، وإن كان مات كافراً لأنه ضن برئاسته وبملكه من أن يدخل في الإسلام، ويترك هذا الذي هو فيه، لكن العشرة الأسئلة التي سألها لـ أبي سفيان تدل على ذكاء خارق وفهم واع لهذا الرجل، فهو قد أعمل عقله ونظره، فكان يسأل وأبو سفيان يجيب ويريد أن يشوه سمعة وشخصية النبي صلى الله عليه وسلم في أي إجابة يقولها، ولذلك قال: ما وجدت شيئاً أقوله عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا كلمة واحدة، ولكن الرجل لم يلتفت إلى كلامه.
ثم سأله هرقل فقال: هل وجدتم وعهدتم منه كذباً قبل ذلك؟ قال: لا، فهو لم يكذب قبل ذلك.
ثم سأله فقال: هل كان من آبائه ملكاً؟ قال: لا.
وسأله فقال: هل يغدر؟ قال: لا، ونحن معه في مدة لا ندري ما يصنع فيها -وكان ذلك في الحديبية- أي: أن بيننا وبينه الآن عهد، ويمكن أن يغدر في يوم من الأيام، فلم يأبه له هرقل، ولم يلتفت إلى كلامه، وإنما كان سؤاله عن الماضي، عن أربعين سنة عاشها النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، ولا يحكم بما سيأتي، لأن هذا مستقبل لا يعلمه إلا الله عز وجل.
قال أبو سفيان: ما وسعني أن أدخل شيئاً إلا هذه الكلمة، وبعد أن أسلم أبو سفيان أخبر عن هذا الذي جرى بينه وبين هرقل.
فالغرض: أن الله تبارك وتعالى جعل للإنسان عقلاً يفكر به في هذا الذي يكلمه، هل هذا الإنسان يتكلم بصدق، وبأمانة، وبإخلاص؟ أم أن هذا الإنسان يريد منصباً، ومكانة، ومالاً؟ والله عز وجل يرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام يدعون الخلق إلى عبادته، فيتبع الرسل الضعفاء، ويبتدئ الدين بقلة، ثم يزيد قليلاً قليلاً كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) بدأ الإسلام غريباً برجل واحد وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد الإسلام فدخل فيه أبو بكر، ودخل علي، ودخلت خديجة، وزاد وزاد حتى ملأ نوره الآفاق، وسيرجع مرة أخرى قبل قيام الساعة إلى الغربة، فيصير المسلم غريباً في قومه، فإذا جاءهم بسنة قالوا: أنت مبتدع، وإذا جاءهم بدين الله سبحانه تبارك وتعالى قالوا: إنا وجدنا آباءنا على غير ذلك، فيرجعون للجاهلية مرة ثانية، وانظر في عادات وتقاليد بعض الناس، فإنك إذا قلت: هذا خطأ.
فإنه يقول لك: نحن نعمل هكذا منذ زمن طويل، فهل ستأتي لنا بدين جديد؟! لأنهم لم ينظروا في كتاب الله ولا في سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، وإنما قلدوا كما قلد أهل الجاهلية، قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ} [الزخرف:٢٢]، وكأنهم يقولون: الهدى والحق مع الآباء والأجداد، وليس لنا دخل بغيرهم.