[تفسير قوله تعالى:(وإذ يتحاجون في النار إن الله قد حكم بين العباد)]
ثم يصور الله لنا هذا المشهد العظيم، وما يحدث في النار لهؤلاء المجرمين؛ ليخوف الله المؤمنين وعصاة الموحدين، فيقول سبحانه:{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنْ النَّارِ}[غافر:٤٧]، أي: يقول أحدهم للآخر: أنت السبب، أنت الذي فعلت هذا، حتى إن أحدهم ليقول لمن لم يدركه: أنت السبب، كما قال تعالى:{قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ}[الأعراف:٣٨]، فيقول الأولون للآخرين:{فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ}[الأعراف:٣٩]، أي: أننا كنا قبلكم بسنين وأعمار طويلة فماذا صنعنا بكم؟ بل أنتم الذين أجرمتم فذوقوا العذاب، قال الله تعالى:{لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ}[الأعراف:٣٨]، فلكل عذاب مضاعف، سواء للأولين أم للآخرين؛ وذلك بسبب عصيانهم ربهم سبحانه وتعالى، لفعلهم السوء وإجرامهم في هذه الدنيا، وبسنهم السنن السيئة.
قال تعالى:{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا}[غافر:٤٧]، ولم يقل: من آل فرعون، فليس الضعفاء من آل فرعون فقط، بل كل الضعفاء المجرمين، وكل من كان جندياً مأموراً من قائده أو سيده وهو يطيع وينفذ الأمر وإن كان معصية لله سبحانه وتعالى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) سبحانه وتعالى، فذكر في هذا الحديث أنه لا يحل لأحد أن يعصي الله سبحانه وتعالى في طاعته لأي مخلوق، فلا يجوز لأحد أن يسمع أو يطيع إلا في طاعة الله سبحانه وتعالى، قال صلى الله عليه وسلم:(اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)، فإذا أمركم بطاعة الله فافعلوا، وإن أمركم بمعصية فلا تفعلوا ذلك.
قال تعالى:{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا}[غافر:٤٧]، للقادة الكبار المستكبرين، {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا}[غافر:٤٧]، أي: كنتم تأمروننا في الدنيا: هاتوا فلاناً، اقبضوا على فلان، عذبوا فلاناً، فماذا ستصنعون لنا الآن ونحن في النار؟ قال تعالى:{فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ}[غافر:٤٧]؟ أي: جزءاً من عذاب النار، وقد كان هؤلاء الكبراء يقولون للمؤمنين في الدنيا كما قال الله سبحانه:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ}[العنكبوت:١٢].
أي: فنحن سنتحمل عنكم هذه الخطايا، فنحن في الدنيا وفي الآخرة معكم، قال الله عز وجل مكذباً لهؤلاء:{وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[العنكبوت:١٢ - ١٣]، إذاً: هذا الذي يقول للثاني: اعمل وعلي، فليس هناك حاجة اسمها عليك، بل كل من الاثنين يحمل ذنبه فوق ظهره، يحملون أوزارهم فوق ظهورهم يوم القيامة جزاءً بما صنعوا، فيقول سبحانه هنا عن هؤلاء:{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا}[غافر:٤٨]، أي: فات الأوان، فقد أصبحنا فيها كلنا، {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ}[غافر:٤٨]، حكم فعدل سبحانه وتعالى وهو أحكم الحاكمين، وهذا الذي يطمئن الإنسان المؤمن، فمهما ظلم المؤمن في هذه الدنيا فهو مطمئن بالله سبحانه وتعالى، وأنه راجع إليه، وأن الحكم له وحده سبحانه وتعالى، فهو الذي يحكم بين عباده بالعدل يوم القيامة، فيقتص للمظلوم من ظالمه، ويعذب الظالمين، كما ذكر سبحانه وتعالى بقوله:{إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ}[غافر:٤٨]، أي: فصل وقضى بين العباد بعدله سبحانه وتعالى.