في هذه الآيات يأمر الله عز وجل عباده بالتخلق والاتصاف بصفات كريمة وعظيمة، أول هذه الصفات: توحيد الله سبحانه والاستقامة على دين الله رب العالمين، والله هو الذي خلق العبد، فلا يكون للعبد أن يعبد إلهاً غيره سبحانه وتعالى، كيف يكون ربه هو الذي خلق والذي رزق والذي أعطى والذي منح والذي أدب وربى، ثم بعد ذلك يعرض عنه ويعبد غيره؟! هذا لا يليق في المنطق العقلي، فلذلك أخبر:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ}[فصلت:٣٠] أي: عرفوا أن الرب هو الخالق وهو الإله المعبود وحده الذي يستحق أن يعبد ليس غيره، وكان المشركون يعرفون أن الرب هو الخالق؛ ولذلك إذا سئلوا: من الذي خلق؟ يقولون: الله الذي خلق، وإذا سئلوا: من تعبدون؟ يقولون: نعبد غيره سبحانه وتعالى، لم لا تعبدون الله؟ قالوا: ما نعبد هؤلاء إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فيزعمون أنهم لا يتوجهون مباشرة إلى الله؛ لأنهم ليسوا أهلاً لذلك، وحقيقة الأمر أنهم لا يعبدون الإله الواحد الذي خلقهم سبحانه؛ لكونهم يعرفون أنهم إذا عبدوا إلهاً واحداً وهو الله سبحانه سيتوجهون عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربهم سبحانه، فيعرفون ما الذي شرعه لهم عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول لهم: هذا أحله الله، وهذا حرمه الله، افعلوا كذا، ولا تفعلوا كذا، فصارت القيادة في زعمهم وظنهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وهم لا يريدون ذلك، فقد كان في قلوبهم الحسد للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله اصطفاه واختاره نبياً ورسولاً صلوات الله وسلامه عليه، فبعدهم عن التوحيد سببه من هذا الباب.
فكل إنسان بمزاجه وبحسب ما يريد يعبد الإله الذي يريد، فيصنع تمثالاً من حجر، أو تمثالاً من شجر، أو تمثالاً من مدر، فيعبدون غير الله، حتى لا يتحكم فيهم بزعمهم النبي صلوات الله وسلامه عليه، أما المؤمنون فعرفوا طريق الله سبحانه وعرفوا كيف يرضون الله عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم الذي يأتيه الوحي من السماء، قال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ}[النساء:٢٦]، فيعرفون ما الذي يريده الله عز وجل بأمره، فينبئهم ويخبر الخلق فيتبعون هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيعبدون الله على بصيرة، قال تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}[يوسف:١٠٨] أي: أنا والمؤمنون على بصيرة أتت من عند الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يهدي وهو الذي يبين سبحانه وتعالى.
فقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ}[فصلت:٣٠] فعبدوا الله واستيقنوا في قلوبهم أنه وحده الذي يستحق أن يعبد، ففعلوا ذلك توجهوا إليه من أقصر، طريق، وهو الطريق الذي يريده الله عز وجل طريق الاستقامة على هذا الدين، الذي جاءنا عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم، فأخلصوا لله سبحانه ووحدوه بالعبادة، وتابعوا هدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العبادة، فهم مؤمنون مستقيمون لم يروغوا ولم يلتفتوا عن دين الله إلى غيره، فهؤلاء يستحقون من الله عز وجل أن يكرمهم في الدنيا، وأن يعلمهم وأن يهديهم وأن يوفقهم لطاعته، وأن يدلهم على سبيله وطريقه، وأن يثبتهم عليه سبحانه وتعالى؛ ولذلك في وقت وفاتهم تتنزل عليهم الملائكة وتقول: لا تخافوا ولا تحزنوا نحن كنا معكم في الدنيا بأمر الله عز وجل، والآن نعينكم في هذا الوقت الذي أنتم فيه، فيثبتكم الله عز وجل بالقول الثابت وينور لكم قبوركم، كما نور لكم قلوبكم في هذه الدنيا.
قال تعالى:{أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}[فصلت:٣٠] إن المؤمن وهو في قبره يثبته الله سبحانه وتعالى، إذ يأتيه عمله الصالح فيحيط به من صلاة وصوم وغير ذلك، فإذا بملائكة العذاب لا يقدرون له على شيء، فإن الله قد عصمه وقد عافاه وقد نجاه سبحانه، فإذا بملائكة الرحمة تقول له: انظر هذا منزلك في الجنة، يقول: يا رب أقم الساعة كي أعود إلى أهلي ومالي، يقول ذلك من فرحته، فيقال له: نم نومة العروس التي لا يوقظها إلا أحب الناس إليها، فيطمئن في قبره، كما يكون قبره روضة من رياض الجنة، فالله ثبته بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وبشرته الملائكة بجنة الله سبحانه وتعالى.