للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار)]

يقول سبحانه وتعالى ذكراً للمؤمنين ثوابهم وحسن الجزاء من الله سبحانه لهم: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:١٢] يعني هل يستوي المؤمنون مع الكفار؟ هؤلاء المؤمنون الأتقياء الذين خافوا من الله، وصدقوا بموعود الله سبحانه، والذين أخلصوا لله وعملوا من أجل دين الله يدخلهم الله عز وجل جنات عظيمة.

قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ} [محمد:١٢] فالله صاحب هذه الجنات، وخالقها، ويتفضل ويكرم عباده فيقول: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:٤٦] وهو سبحانه الذي يتولى ذلك، فالمؤمن يستبشر ويطمئن فربه كريم سبحانه وتعالى.

قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد:١٢] أي: الذين صدقوا وأيقنوا وعملوا الصالحات يدخلهم جنات وبساتين عظيمة في جنة الخلود.

قال تعالى: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [محمد:١٢] أي: في أرضها من تحت أقدامهم، فينظرون إلى الأنهار وهي تجري لا كدورة فيها، ولا عكارة فيها، ولا شيء يؤذيهم فيها.

وسيفسر لنا بعد ذلك ما هذه الأنهار؟ قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ} [محمد:١٢] كأنه يقول لك: قارن بين الاثنين، فالمؤمن آمن في الدنيا وعمل الصالحات، واجتهد في طاعة الله، وفي عبادة الله، وجاهد نفسه وهواه، وجاهد شيطانه، وصبر على أمر الله، وجاهد الكفار والمنافقين، وجاهد كل شيء يؤذي ويشغل عن الله سبحانه وتعالى، فالمؤمن تعب في الدنيا، فاستحق الراحة في الآخرة.

أما الكافر فاستمتع بهذه الحياة الدنيا، فمثلهم مثل البهائم، لا يفهمون ولا يفقهون لماذا خلقوا ولماذا يموتون، وهل هناك بعث أم لا، الذي يهمه الدنيا فقط، فيقضي الدنيا للدنيا؛ لذلك تجد الكفار يجرون في دائرة لا تنتهي، فيمني بعضهم بعضاً، يريدون رفاهية، ويريدون حياة طيبة بزعمهم، ويريدون أن يعيشوا، ويستمتعوا بكل شيء في هذه الدنيا، فإذا بهم في بلاد الكفار عندهم المال، وعندهم النساء، وعندهم ما يشتهونه من أشياء، ومن لديه حاجة لا يرضى بها ويريد أكثر منها! ويشجعون بعضهم على ذلك: فإن كان لأحدهم شقة صغيرة في حي فقير، قيل له: خذ شقة كبيرة في حي غني.

وإن كان عندك بيت قالوا: اجعله قصراً، وهكذا يطلبون الدنيا، والمال، والشهرة، ويقولون: اطلب هذا الشيء واعمل وسنعطيك، بل سنعطيك قبل أن تعمل، فالبنوك موجودة استلف من بنك واعمل لنفسك بيتاً، أو دع البيت القديم وخذ الجديد، ويبيع سيارته لكي يأخذ الموديل الجديد الأحدث منها، وهكذا شغلهم في الدنيا بما لا ينفعهم في الآخرة.

وأيضاً: كثير من المسلمين يقلدونهم في هذا الشيء، إن كان عنده سيارة موديل قديم تركها وأخذ الأحدث منها، ولا فرق بينهما إلا الموديل! وهذا بذخ وطلب الدنيا للدنيا، يكلف نفسه، ولعله يستدين من بنك أو من أحد ويزيد عشرين ألف فوقها، والذي أدخله في هذه الفرامة الطمع في الدنيا.

وما زاده من مال قد يكون أخذه من ظلم الناس، ونهب أموالهم، وسرقتهم، وقد يمتنع من زكاة المال التي تجب عليه، ويتهرب منها كأن يشتري بماله أشياء تبقى للقنية، ثم يبيعها ليضيع حول زكاة المال في سنته! وهذا طريق الكفار أن يستمتع بالدنيا للدنيا، ويريد كل شيء في الدنيا، ومستحيل أن يحصل إنسان على كل شيء فيها.

يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ} [محمد:١٢] أكل البهائم، والأنعام، يريد الدنيا فيأكل ويشرب فيها، ويعمل ما يشاء، وفي كل مرة يعلن عن أكل جديد وهو متابع لكل جديد.

ويقال له: خذ الدواء الفلاني بالصبح والليل من أجل الصحة والحيوية وتأخير الشيخوخة، مثل الأنعام يريد الحياة الدنيا للدنيا، يريد أن يكون شاباً طول عمره، ويشد وجهه لكي يبدو منظره شاباً.

وما علموا أن الهرمونات الموجودة في جسم الإنسان هي مسئولة عن الشيخوخة أم يريدون إلغاءها؟! ولماذا لا يلغون الموت أيضاً؟! يظنون أنهم يخلدون في هذه الدنيا، سبحان الله! هم مثل البهائم والأنعام كما قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:٤٤].

ويقول هنا: {وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:١٢] فرق بين المؤمن حين يأكل وبين الكافر حين يأكل، الكافر يأكل يريد الصحة والقوة، والمؤمن يتقوى بذلك على طاعة الله سبحانه وتعالى، فالمؤمن يأمره الله عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:٣١].

ويقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:٣٢] أي: كل واشرب بقدر من غير أن تؤذي نفسك، ولا تؤذي غيرك، ثم احمد الله عز وجل واشكره على نعمه؛ فهذه النعم خالصة لك يوم القيامة، وليس عليك حساب يوم القيامة ولا عقاب على ذلك.

أما الكافر فيسأل عن كل شيء، قال تعالى: {وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:١٢] أي: مقامهم، والمنزل الذي ينزلون فيه، ومكان ثوائهم.

ومعنى يثوون: يقيمون ويؤبدون فيها لا يخرجون منها.

<<  <  ج:
ص:  >  >>