[تفسير قوله تعالى:(وما أسألكم عليه من أجر واتبعك الأرذلون)]
قال تعالى حاكياً كلام نوح عليه السلام:{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:١٠٩].
فقد كان كل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام يقولون لأقوامهم: إننا لم نأت لنطلب أجراً على هذا الشيء، إنما الذي يأجرنا ويعطينا الأجر هو الله سبحانه، وكذلك فإن نبينا صلى الله عليه وسلم قد أمره ربه أن يقول:{قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[الشورى:٢٣] أي: لا أسألكم عليه أجرة تدفعونها إلي، ولكني أطلب منكم أن تبروني في الرحم التي بيني وبينكم، فإن بيني وبينكم نسباً فراعوا ذلك النسب والقربى.
فالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام أجرهم على الله سبحانه، ولا يسألون أحداً أجراً على شيء، ولا يقبلون صدقة من أحد أبداً، والذي يأخذونه هو ما يأخذونه بجهادهم في سبيل الله سبحانه أو بكسب أيديهم، فيعلمهم الله عز وجل صنعة يعملون بها، فيكون عيشهم إما من غنائم الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى كما كان حال نبينا عليه الصلاة والسلام، وإما أن تكون حرفة يعلمهم الله سبحانه وتعالى إياها كما علم داود وغيره عليهم الصلاة والسلام.
وقوله:{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:١٠٩] اختلف فيها القراء، وهذه هي قراءة الجمهور، وأما قراءة ابن كثير وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب:((إِنْ أَجْرِيْ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ))، والذي يمد فيهم يقرأ:(إن أجري~ إلا على رب العالمين) على حسب اختلافهم في المد والقصر.
{إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:١٠٩] وهنا ناسب أن يذكر الرب سبحانه ولا يناسب أن يذكر الإله؛ لأن مقتضى أنه إلهي أن أعبده، ومقتضى أنه ربي أنه هو الذي يعطي ويرزق؛ ولذلك قال:((إِنْ أَجْرِيْ إِلَّا عَلَى رَبِّي))، وما قال: على إلهي، وإن كان الإله هو الرب سبحانه، لكن مقتضى ربوبية الله سبحانه أنه هو الذي يشرع، ويرسل الرسل، وأنه الذي يرزق الرسل وغيرهم من الخلق.
قوله:(أَنُؤْمِنُ) كأنهم يستنكرون ذلك، ويقولون: أنؤمن ونكون مثل هؤلاء؟ وهذا هو كلام الكفرة في كل عصر، فالمشركون قالوا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم: إننا لا نجلس مع هؤلاء فتعيرنا القبائل، وقوم نوح قالوا:{أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ}[الشعراء:١١١] يعني: وقد اتبعك أراذل القوم، أي: السفلة من القوم، والناس الفقراء الضعفاء الذين ليسوا بسادة ولا كبراء ولا وزراء في القوم، فهؤلاء هم الذين كانوا يتبعونه، ونفس الكلام قاله المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم لما رأوا صهيباً وعماراً ورأوا غيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الفقراء والمساكين فقالوا: لا نجلس مع هؤلاء، فاجعل لنا يوماً وحدنا إذا أردت أن نسمع لك، فإذا بالنبي يكاد أن يستجيب لهم طمعاً في إيمانهم، ولكن الله حذر النبي صلى الله عليه وسلم فقال:{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}[الأنعام:٥٢] أي: لا تطرد هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي مخلصين له، ويريدون وجهه، {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[الكهف:٢٨]، وقال تعالى:{مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنعام:٥٢] أي: اجلس مع هؤلاء ولا تتركهم فإن حسابهم على الله، وحسابك على الله، وحساب هؤلاء الكفار على الله سبحانه، فلا أحد يحمل عن أحد من حسابه شيء.
ثم أخبر الله نبيه وخليله صلوات الله وسلامه عليه أنه إذا طرد هؤلاء فإنه يكون ظالماً، وحاشا له أن يظلم، فما كان ليطردهم، ولكنه أراد أن يجعل لهؤلاء يوماً ولهؤلاء يوماً، فإذا بالله يصف ذلك بأنه طرد لهم، مع أنهم آتون ليلاً ونهاراً يتعلمون الدين فكيف يطردهم ويقدم هؤلاء ويجعل لهم يوماً بدلاً من هؤلاء، مع أن هؤلاء لعلهم لا يؤمنون؟! وكذلك قوم نوح لما قالوا لنوح عليه الصلاة والسلام:{أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ}[الشعراء:١١١] يعني: وقد اتبعك الأرذلون والضعفاء والذين ليس لهم من الأمر شيء، فنحن لن نجلس معهم ولن نؤمن، {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ}[الشعراء:١١١] يعني: هؤلاء الأتباع الذين من حولك ضعفاء، وليس معك جيش ولا قوة، فلن نؤمن لك ما دام معك هؤلاء.