[تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء)]
قال الله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)) [الحج:٦٣].
يذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يفعل كذا، والله يفعل كذا، ويذكر لنا من صفاته ما يناسب المقام.
فالله أنزل الماء من السماء أي: من السحاب ومن حيث شاء الله سبحانه وتعالى، نزل المطر بالليل، وأصبحت الأرض مخضرة، هذه آية، وذكرها قبل ذلك في الآية الخامسة من هذه السورة بقوله تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:٥ - ٦]، فالمناسبة العظيمة بين إنزال الماء من السماء: أن الماء ينزل من السماء على أرض جدباء فيحييها الله سبحانه، وينزل القرآن من السماء على قلوب عباد -والله أعلم من يستحق الهدى- فيهديها ويحييها بعد موتها وبعد ضلالها، فالقرآن شفاء ونور وحياة، نزل من السماء ويحيي به الله عز وجل قلوب من يشاء من خلقه.
في الآية الأولى ذكر لنا ربنا سبحانه: (وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) وهذه لها معان في اهتزازها وربوها، فالأرض تهتز بالنبات الذي فيها، سيقان النبات وجذور النبات تدخل في الأرض، فإذا بالأرض تهتز وتعلو بما نما فيها من جذور للنبات، هذا معنى من المعاني.
وتربو الأرض ويرتفع فيها النبات، فكأنها علت بالنبات الذي فوقها.
والآية هنا يقول سبحانه: (فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً) وفي تلك الآية يقول سبحانه: (اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ)، والبعض يقول: إن الأرض اهتزت وربت داخل الأرض نفسها، فالأرض من داخلها تهتز، والربو بداخل الأرض نفسها، ثم بعد ذلك ينبت النبات، فعلى التفسير الأول: أن الأرض علت بما فوقها من النبات، نبات نما وعلا فوق الأرض، فهذا هو ربو الأرض وعلوها.
والبعض الآخر يقول: إن الربو بداخل الأرض نفسها، التربة نفسها تربو وتنتفخ وتعلو، وهذا موافق لما جاء في هذه الآية، والعلم الحديث يقول لنا هذا الشيء أيضاً، ففي عام ١٨٢٧م اكتشف عالم بريطاني اسمه براون أن المطر ينزل على الأرض فيحدث في الأرض اهتزازات بداخل التربة، أي: حبيبات التراب التي في الأرض تهتز، فيحصل نوع من التأين فيها، شحنات سالبة وشحنات موجبة بسبب المطر، فالتي تأخذ شحنة عالية تتحول إلى شحنة موجبة، والثانية تتحول إلى شحنة سالبة أو العكس في ذلك، فيحصل تنافر بين هذه الشحنات فتعلو الأرض؛ لأن الماء يدخل بداخلها، أي: أن جزءاً من ألف جزء من الملي يدخل فيها شيء من الماء، والأخرى يدخل فيها شيء من الماء، فيحجز الماء في هذه الصفيحات من حبيبات الأرض لكي تنمو النباتات بعد ذلك، يقول براون: إن هذه الحبيبات من التراب عبارة عن صفائح بعضها فوق بعض من المعادن المختلفة، وهي صفائح متراصة، فإذا نزل المطر تكونت شحنات كهربائية مختلفة بين الحبيبات بسبب اختلاف المعادن، وحدث تأين وتحول إلى شحنات سالبة وشحنات موجبة، فإذا نقص عدد الكهيربات في الذرة أصبحت موجبة، وإذا زادت صارت سالبة بفعل الماء الذي ينزل عليها، وبدخول الماء من عدة جهات إلى تلك الحبيبات يحدث اهتزاز في هذه الحبيبات.
والاهتزاز له فائدة عظيمة، فقد قال سبحانه: (اهتزت وربت) أي: تهتز صفيحات التراب، وبعد ذلك تتباعد بعضها عن بعض وتحتوي الماء في داخلها، فالاهتزاز يوجد مجالاً لدخول الماء بين الصفائح، فإذا دخل الماء بين صفائح التراب نمت ودبت هذه الحياة، وربت وزادت بسبب دخول الماء بين الصفائح، فإذا تشبعت بالماء أصبحت عبارة عن خزان للماء، فالتراب الذي نراه يصير خزاناً للماء بداخل الأرض يحفظ الماء بين هذه الصفائح، والنبات يستمد الماء من التراب الذي في صفائحه ذرات الماء طوال شهرين أو ثلاثة أشهر، فأصبحت خزانات للماء بداخل الأرض، وربت بفعل الماء الذي بداخلها ثم بعد ذلك أنبتت النبات.
وهنا يقول الله في الآية: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً) أي: ربت الأرض وبعد ذلك أخرجت النبات، والاهتزازات الذي ذكرها هذا العالم موجودة في القرآن في قوله تعالى: (فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ)، ولكنهم اعتبروها كشفاً علمياً حديثاً جداً، ونسبوها لصاحبها الذي اكتشفها، ولكن صاحبها الحقيقي هو الله عز وجل الذي أخبر بها، فسماها علماء النبات اهتزازات براون نسبة لمن اكتشفها، وكان ذلك في عام ١٨٢٧م، والقرآن من قبل ١٤٠٠ سنة ذكر لنا هذا الشيء العظيم: أن الأرض تهتز وتربو وتنمي هذا النبات، ثم اكتشفوا ذلك، ونسبوه للمكتشف ونسوا ما ذكر الله سبحانه وتعالى! فقوله تعالى: (فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً) بالنبات الذي فوقها.
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) إذ تصبح الأرض مخضرة وفيها النبات الأخضر، فيها الورق الأخضر الذي يأتي عليه الضوء، فيخرج منه أوكسجين؛ لأنه يتنفس ويأخذ ثاني أكسيد الكربون ويخرج لنا الأوكسجين الذي نعيش به، ولكي نعرف لطف الله عز وجل بعباده أخرج من النبات الغذاء للإنسان والأوكسجين الذي يتنفس به الإنسان من فضل الله عز وجل، فقال لنا: الله لطيف بعباده سبحانه وتعالى، فالمطر حياة للإنسان، لما ينزل من ماء يشربه الإنسان ويسقي الأرض وينمي النبات، ويخرج لنا الأوكسجين الذي نتنفسه.
قال: (خَبِيرٌ) أي: دقيق في علمه يعلم ما دق وما جل، ويعلم ما يحتاجه الإنسان، فيعطيه ما يحتاجه.
وهنا نرى المناسبة الجميلة بين إنزال الماء ولطف الله سبحانه وتعالى بالعباد، فالإنسان يعطش ويحتاج للتنفس وللطعام، فالله بلطفه أنزل الماء فأعطاه هذا كله، والله خبير يعلم حاجة الإنسان ويعلم ما في قلبه عندما يدعوه، فالله الخبير سبحانه العليم بخفايا النفوس، والعليم بما يحتاجه الإنسان، أخرج له النبات وأعطاه الرزق.