[تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا)]
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:٣٦]، لما ذكر لنا حال أهل الجنة ونعيمهم المقيم -نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته وأن يجيرنا من ناره- ذكر أهل الكفر، وأنهم حين يدخلون النار يخلدون فيها ولا يخرجون منها أبداً، ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ)) ونار الآخرة لا يطيقها إنسان أبداً، ونار الدنيا التي لا نطيقها يقول عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها جزء من سبعين جزءاً من نار الآخرة) فأقصى ما يكون من نار الدنيا وأشد ما يكون من لهيب الدنيا، إنما هو جزء من أجزاء نار الآخرة، فكيف تكون نار الآخرة، نسأل الله العفو والعافية.
وجهنم من أسماء النار، وكأنها مشتقة من الشيء البعيد القعر، يقولون: بئر جهنام بمعنى بئر بعيدة القعر، فنار جهنم هي النار البعيد القعر، يلقى بالحجر في النار فيهوي فيها سبعين خريفاً حتى يصل إلى قعر النار والعياذ بالله، فكأن جهنم أس النار وأصل النار وأساس النار، والدركة السفلى من النار التي فوقها الدركات الأخرى.
فالجنة درجات عالية، والنار دركات هاوية، فأهوى ما فيها وأسقط ما فيها وأسفل ما فيها جهنم والعياذ بالله.
وجهنم في أصلها شجرة الزقوم، {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:٤٣ - ٤٩]، هذا يقال للكافر كـ أبي جهل وأتباعه، الذين كانوا يسخرون من النبي صلوات الله وسلامه عليه حين يذكرهم بالنار، وبهذه الشجرة التي في النار، فيقول أبو جهل: شجرة زقوم يخوفنا منها، وهل تنبت شجرة في النار؟ ما الزقوم؟ تعالوا نتزقم، فيأتي لهم بالتمر فيقول: إنما الزقوم تمر يخلط بالزبد تعالوا نتزقم.
يسخر من عذاب الله سبحانه وتعالى، وكان يقول لما يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: إن أمثالك مصيرهم النار، يقول: أنا أدخل النار، أنا عزيز في قومي، تخوفني وأنا عزيز في قومي، وأنا أكرم على قومي من أن يتركوني، هذا الجاهل الذي لقبه النبي صلى الله عليه وسلم وكناه بـ أبي جهل لعنة الله عليه، وقال عنه: (هذا فرعون هذه الأمة)، هذا المجرم، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان:٤٣ - ٤٤]، أي: لـ أبي جهل هذا وأمثاله، {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان:٤٥]، المهل دردي الزيت، والدردي: هو ما يتبقى في الإناء من الزيت المغلي، وطعمه قبيح جداً لا يستساغ، فهذا هو المهل الذي يكون في بطونهم.
والمهل أيضاً: هو صديد أهل النار والعياذ بالله.
وقال سبحانه: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان:٤٧] وعتل الشيء، أي: أخذه أخذاً عنيفاً فحمله وألقاه في النار.
ثم قال تعالى: {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:٤٨ - ٤٩] أي: كنت في الدنيا تقول: أنا عزيز، ذق أيها العزيز، وكنت تقول: أنا كريم، فذق أيها الكريم، وهذا هو الهوان وهذا هو الذل الذي كنت تستهزئ به.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:٣٦] أي: نار الدنيا إذا أحرقت إنساناً قضى الله عز وجل عليه ومات، أما نار الآخرة فليس فيها موت، وهذا أفظع ما يكون على أهل النار، فالله سبحانه وتعالى ييئسهم من الموت: (لما يدخل أهل النار من الكفار النار، ويدخل أهل الجنة الجنة، يؤتى بالموت بين الجنة والنار على هيئة كبش أملح، والله يخلق ما يشاء سبحانه، فينادى: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، وينادى: يا أهل النار، فينظرون ويظنون أنهم سيخرجون من النار، فيقال للجميع: أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم.
إنه الموت، فيأمر الله عز وجل بذبحه بين الجنة والنار، فيذبح الموت، ويقال لأهل الجنة: خلود بلا موت، ويقال لأهل النار: خلود بلا موت، فأهل الجنة يزدادون نعيماً وفرحاً بما أعطاهم الله، وأهل النار يزدادون غماً وبؤساً وشقاءً بأنه لا موت) {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء:٥٦] أي: في نار جهنم كلما نضجت واستوت جلودهم وتفحمت من النار يبدلهم جلوداً أخرى غيرها، {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:٥٦]، سبحانه وتعالى.
قال: ((لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا)) أي: لا يموتون في النار، وإنما يعطي الله عز وجل لهم القدرة على الحياة فيها، يحيون ويتألمون ويقاسون من حرها ولا يموتون أبداً، {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:٣٦] أي: لا يخفف عنهم شيء من عذاب النار، {كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:٣٦] عبر بنون العظمة للدلالة على عظمة الله سبحانه وتعالى، أي: كذلك نجزي من كفر بنا، وابتعد عن ديننا، وعصى رسولنا صلوات وسلامه عليه.
وقراءة أبي عمرو: ((كَذَلِكَ يجْزِي كُلَّ كَفُورٍ)) أي: كذلك الجزاء في نار جهنم خالدين فيها، وكل إنسان كفر بالله سبحانه وتعالى وجحد ربه سبحانه، وجحد نعم الله، وأشرك بالله، يجزى هذا الجزاء، فالكفار يدخلون النار ويعذبون عذاباً شديداً فيها، وقد أعذر الله سبحانه وتعالى إليهم، وينادون وهم في النار مالكاً خازن النار، قالوا: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:٧٧]، ما هو جوابه؟ {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:٧٧] أي: إنكم مقيمون في النار ولن تخرجوا منها أبداً، قالوا: تعالوا: نصبر مثلما صبر أهل الدنيا في الدنيا على الدنيا فنالوا النعيم، نصبر قليلاًَ في النار، فصبروا فطال صبرهم، ثم جزعوا فقال بعضهم لبعض: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:٢١]، قالوا: تعالوا: ننادي ربنا، فإنه كان رحيماً بنا في الدنيا، ولعله يرحمنا الآن، فنادوا ربهم، {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:١٠٦] أي: ربنا كنا أشقياء في الدنيا، وغلب علينا القدر، {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:١٠٧] أي: كنا في الدنيا قوماً ضالين ظالمين، {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:١٠٨] وكلمة اخسأ تقال للكلب، يعني: إذا أردت أن تطرد الكلب إلى مكان بعيد فتقول: اخسأ، فيقال لأهل النار من الكفار ذلك: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:١٠٨ - ١١١].
أي: فاز أهل الجنة ونجاهم الله سبحانه وتعالى، وضاع أهل النار وخسروا بسبب ما كانوا يصنعون في الدنيا، وهذه الدنيا لا تساوي شيئاً، قال سبحانه: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:١١٢] أي: يقال ذلك للجميع، فما جوابهم؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:١١٣] أي: اسأل الذين يعدون.
فأهل النار لا عذر لهم مقبول ولا هم يعتبون وهم في النار، وإنما يرون العذاب.