للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكمة الله تعالى في تقسيم الأرزاق]

قال تعالى: {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:٢٧]، فهو يعلم ما الذي ينفعهم فيعطيهم سبحانه وتعالى، وكل شيء يجري بحكمة الله، وهو أعلم بها، وقد يرى العباد مقتضى هذه الحكمة، وقد لا يرى الإنسان ما وراء ذلك، فالله أعلم بمن يستحق فيعطيه سبحانه وتعالى، سواء بدى لنا ذلك الأمر أو لا، فهو الخبير ذو العلم الدقيق الذي هو أعلم بخفايا العباد وبالذي يستحقون، فترى الشيء أمامك وتتمنى له كذا، ولكن تجد في حقيقته في النهاية أنه ليس كما تظن، فالله يدبر أمر الخلق على ما يعرف هو، لا على ما تريد أنت، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يريهم أشياء من ذلك بتصرفه هو صلوات الله وسلامه عليه، فيعطي البعض من العباد من الزكاة ويعطيه من الصدقة، ويعطيهم هدية، ويتألفهم النبي صلوات الله وسلامه عليه، فيجيء بعض الصحابة ويقول: يا رسول الله! فلان أحوج، فلان هذا أولى من فلان، فيبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعرف ذلك، يقول: (إني لأعطي القوم وغيرهم أحب إلي، ولكني أكلهم لإيمانهم).

فهذا تصرف من النبي صلى الله عليه وسلم، والناظر إليه نظر إلى أنه لماذا فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؟ فلان هذا ليس هو الذي يستحق، وفلان الثاني أولى منه، فيقول: أعطي هؤلاء أتألفهم ليثبتوا، وليكونوا على الدين حتى لا يتزلزلوا ولا يتزعزعوا، وأترك فلاناً لأن إيمانه قوي، فهذا علم النبي صلى الله عليه وسلم، وعلمه علم بشر صلوات الله وسلامه عليه، فكيف بعلم رب البشر سبحانه وتعالى؟! قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار:٧]، وقال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:١٤]، فالله بحكمته أعطى فلاناً ومنع فلاناً، فإن من عباد الله عز وجل من لا يصلحه إلا الفقر؛ لأنه إذا أغناه الله طغى وبطر وأشر، وصار ظالماً، وصار يأخذ أموال الناس مع أنه إنسان غني، فالله أعلم بأن هذا لا يصلح له إلا أن يكون فقيراً، وإن أراد الله عز وجل به رحمة فيفقره، وإن أراد رحمه، فإن أراد شقاوته أعطاه من المال، وكل يجري بحكمته سبحانه، اختار لهذا الشقاوة ولهذا السعادة وهو أعلم ما الذي يستحقه العبد؛ لأنه هو الذي خلقه، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن:٢]، فهو أعلم بمن يستحق رحمته، ومن يستحق عذابه، وهو أعلم بنفوس العباد، فلذلك يعطي العباد ما يريد، يريد الله عز وجل بعبده الرحمة، ويريد الله عز وجل أن يجعله من أهل جنته، ويعلم أن هذا الإنسان لو كان غنياً فسيطغى في هذه الدنيا، فيجعله فقيراً ليرحمه سبحانه وتعالى.

ويعلم أن فلاناً هذا لا يصلح له إلا الغنى؛ لأنه إذا أغناه الله سبحانه فهو يعطي وينفق في سبيل الله، فيعطيه الله وهو أعلم بعباده سبحانه، ويعلم من عباده أن فلاناً لو أغناه لصار ظالماً، ويريد الله شقاوته، والله أعلم بعباده، فيغنيه ويعطيه، ولو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، فإذا به يأخذ ما أغناه الله به وينفقه فيما حرمه الله سبحانه؛ لينال قضاءه وقدره الذي قسمه الله سبحانه وتعالى له، عمل المعصية وهو على علم وبينة أنه عصى الله سبحانه.

لذلك نقول: الله أعلم بنفوس العباد حين يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وحين يضيق على من يشاء سبحانه، ولذلك إذا أعطاك الله عز وجل المال فاعلم أن هناك من يستحق، فأعط وأخرج زكاة مالك، وأخرج زكاة فطرك، وأخرج صدقة مالك، وأعط للقرابة، وأعط للجيران، وأعط للفقراء، وأنفق لله سبحانه وتعالى، ولا تنس الحقوق التي أمرك الله عز وجل أن تؤديها، وإذا ضيق الله عز وجل عليك فاحمد الله سبحانه وتعالى بشرط أن تأخذ بالأسباب، تذهب إلى عملك، وتتعب نفسك وتحاول، فإذا ضيق الله عز وجل عليك فهو أعلم سبحانه أن هذا هو القدر الذي ينفعك ويصلح لك، هو أعلم أنه لو أعطاك أكثر من ذلك لأطغاك فمنع الله عز وجل عنك ذلك، فهو أعلم سبحانه وتعالى ما الذي تستحقه وما الذي يدخره لك عنده يوم القيامة.

الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم من أيام الآخرة، وأيام الآخرة مقدارها كما قال تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:٤٧]، فيدخل الفقراء قبل الأغنياء بخمسمائة سنة.

فالإنسان المؤمن يصبر نفسه ويسلي نفسه بذلك، فهذا يوم عند الله عز وجل بألف سنة، فأيامنا هذه لا تساوي شيئاً، ولذلك لما قيل لأهل الدنيا: كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [المؤمنون:١١٣]، فإذا كان عمره خمسين سنة، أو مائة سنة وقارنه بيوم قدره خمسون ألف سنة، فإن عمره كله لا يساوي يوماً من أيام الآخرة، قال تعالى: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:١١٣] فهل ستضيع الخلود في الجنة بسبب يوم في الدنيا تحسبه يوماً طويلاً جداً، وهو عبارة عن أيام وليال وسنون قليلة تضيع في النهاية، وتذهب وتتساقط كأوراق الشجر وتذهب إلى ربك سبحانه لتقول: لبثنا يوماً؟ قال تعالى: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه:١٠٤] ويقولون: أو بعض يوم.

إذاً: المؤمن إذا أعطاه الله عز وجل من الدنيا عرف حق الله، وإذا منعه الله سبحانه فليحسن الظن بالله سبحانه أنه لا يمنعه إلا لمصلحة وراء ذلك لهذا العبد أن ينجيه من العذاب ويدخله جنته، ويمنع عنه الفتن في الدنيا، فإن رحمة الله عظيمة واسعة، قال تعالى: {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:٢٧].

<<  <  ج:
ص:  >  >>