[بيان حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعد نزول هذه الآية]
هذه الآية جعلت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يخافون من العرض يوم القيامة ومن الحساب، فيضيقون ويقللون على أنفسهم خوفاً من العرض يوم القيامة، وإن كان الله الكريم سبحانه قال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:٣١].
وقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:٣٢].
وهذا من كرم الخالق سبحانه وتعالى أن نأكل ونشرب، لكن لا نسرف، فالإنسان لا يأكل من أجل أن يموت، وإنما يأكل من أجل أن يعيش فيعبد الله سبحانه وتعالى، إذاً: فكل واشرب ولا تسرف ((إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)).
والله سبحانه وتعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، فإن أعطاك أكلاً أكلت، وإن أعطاك الشراب شربت، وإن أعطاك مالاً اشتريت به ملابس طيبة، ولم يأمرك أن تمشي في ثياب مرقعة، ولم يقل لك: اترك هذا المال ولا تتنعم به، ولكن بالقدر الذي لا يكون فيه استكبار، ولا يكون فيه تعاظم على خلق الله سبحانه وتعالى، إذاً: فالإنسان يأكل ويشرب ويلبس دون أن يستكبر على خلق الله سبحانه، فإن وجد الغالي ووجد ما هو دونه أخذ الوسط، فيكون في الوسط دائماً، ولا يأخذ الغالي دائماً وإن كان حلالاً؛ لأن ذلك يدفع الإنسان إلى الاستكبار في النهاية، ولكن يأخذ هذا ويأخذ من هذا وخير الأمور أوسطها، وقد عاش في الدنيا صلوات الله وسلامه عليه وهي ضيقة عليه وعلى أصحابه، ولما فتحت له الدنيا لم يتركه الله فيها، بل قبضه سبحانه وتعالى ولم يتنعم بشيء منها، فالصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أكلوا الخبز المرقق، وكان أحدهم يأكل منه ويبكي، ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم كيف خرج من الدنيا وما ذاقه، ومع ذلك أكلوا ولكن لم يسرفوا، فرضوان الله وتعالى عليهم.
فهذا عمر رضي الله عنه يروي عنه الإمام مسلم أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم في مشربة له حين هجر نساءه صلوات الله وسلامه عليه، وذلك لما ضقن بقلة النفقة، فطلبن من النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة في النفقة وذلك حين فتح الله عليه، فلما شددن ضاق ذرعاً بهن صلى الله عليه وسلم فتركهن وهجرهن شهراً صلوات الله وسلامه عليه، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم أدب نساءه في طلبهن كثرة النفقة منه صلوات الله وسلامه عليه، وخرج إلى مشربة له صلى الله عليه وسلم، والمشربة هي الغرفة العالية، فاعتزل نساءه صلى الله عليه وسلم فيها، وحلف أن يعتزلهن شهراً صلوات الله وسلامه عليه، وذلك بسبب طلبهن الزيادة في النفقة، وبسبب الغيرة التي كانت بين نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فقد دفعتهن إلى أن يكن حزبين: حزباً مع السيدة عائشة رضي الله عنه، وحزباً آخر مع غيرها من نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فاعتزلهن صلى الله عليه وسلم تأديباً لهن لما حدث ذلك، وإذا بالصحابة رضوان الله عليهم يحزنون لضيق النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان أهم شيء عندهم هو سروره، ويكرهون أن يغتم صلى الله عليه وسلم، فلما وجدوه اعتزل نساءه صلى الله عليه وسلم خافوا أن يكون قد طلق نسائه، فجلسوا في المسجد يبكون، وقد حذر عمر بن الخطاب ابنته حفصة من إغضاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: سليني من مالي ما شئت، ولا تطلبي من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يغرنك أن زوجك النبي صلى الله عليه وسلم وأن جارتك أوضأ منك، فالسيدة عائشة أجمل منها.
وكان الصحابة في ذلك الحين يتحدثون أن ملك غسان يجهز جيشاً للقدوم على النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكانوا لا يخافون من أحد من العرب مثل خوفهم من غسان وملك غسان؛ لقوتهم، وفي يوم من الأيام كان عمر رضي الله عنه في بيته فطرق صاحبه البيت عليه بالليل، وذلك في وقت ما كان يذهب إليه فيه، فقام عمر بن الخطاب خائفاً وقال: ماذا حدث؟ أجاء ملك غسان؟ قال: لا، أشد من ذلك، فقد كان فغضب النبي صلى الله عليه وسلم أشد عند الصحابة من قتال الأعداء، فقال: أشد من ذلك، فارق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، فقال عمر بن الخطاب: هذا ما كنت أخشاه، وذهب إلى المسجد، فوجد الصحابة عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم جالسين منهم من يبكي ومنهم من يفكر، فـ عمر بن الخطاب سأل: ماذا حدث؟ قالوا: طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، فستأذن عمر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأذن له، فاستأذن مرة ثانية ومرة ثالثة، ثم أذن له، فدخل على النبي صلوات الله وسلامه عليه فالتفت فلم ير شيئاً يرد البصر إلا أهباً -والأهب: الجلود التي لم تدبغ بعد- قد سطع ريحها، وتلطف مع النبي صلى الله عليه وسلم في الكلام وما زال يكلمه حتى ضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فمن ضمن ما ذكر أنه قال: يا رسول الله! كنا قوماً في قريش وكنا نغلب نساءنا، يعني: لما كنا في مكة كنا نغلب نسائنا، ولما جئنا المدينة وجدنا الأنصار تغلبهم نساؤهم، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسول الله! لو رأيتني وقد ذهبت إلى حفصة وقلت لها: لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أضحك النبي صلى الله عليه وسلم قال: أطلقت نساءك؟ قال: لا، فكبر عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فسمعه أهل المسجد، فعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلق نساءه، فقال عمر بعد ذلك: يا رسول الله! أنت هنا وهذا كسرى وقيصر في الديباج والحرير، فاستوى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا).
فالله سبحانه وتعالى أعطى كسرى وأعطى قيصر ليس لأنه يحبهم، ولكن عجل لهم طيباتهم في هذه الدنيا؛ حتى لا يكون لهم عند الله شيء يوم القيامة.
فقال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: استغفر لي، فقال: (اللهم اغفر له).
فالنبي صلى الله عليه وسلم أدب عمر رضي الله عنه بذلك.
يقول حفص بن أبي العاص: كنت أتغدى عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أي: يفطر مع عمر، وكانوا يأكلون وجبتين في اليوم: الغداء -أي: الإفطار- والعشاء.
قال: كنت أتغدى عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخبز والزيت، والخبز والسمن، والخبز واللبن، والخبز والقديد، وأقل ذلك اللحم الغليظ، وهو اللحم الطري.
وكان عمر رضي الله عنه يقول: لا تنخلوا الدقيق؛ فإنه طعامٌ كله، فجيء بخبز متفلع غليظ فجعل يأكل رضي الله عنه ويقول: كلوا.
هذا هو عمر أمير المؤمنين، وأمير الدولة الإسلامية رضي الله تبارك وتعالى عنه يأكل ذلك ويقول لمن حوله: كلوا، قال: فجعلنا لا نأكل، فقال: مالكم لا تأكلون؟ فقلنا: والله يا أمير المؤمنين! إنا نرجع إلى طعام ألين من طعامك، فقال عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه: يا ابن أبي عاصم، أما ترى بأني عالم لو أمرت بعناق سمينة فيلقى عنها شعرها، ثم تخرج مصلية كأنها كذا وكذا.
يأدبهم عمر بذلك رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وقال: أما ترى بأني عالم لو أمرت بصاع أو صاعين من زبيب، فأجعله في سقاء ثم أشن عليه من الماء، فيصبح كأنه دم غزال، فقلت: يا أمير المؤمنين! أجل، ما تنعت: العيش، أي: ما تنعته هو العيش، فقال عمر: أجل، والله الذي لا إله إلا هو لولا أني أخاف أن تنقص حسناتي يوم القيامة لشاركناكم في العيش، ولكني سمعت الله تعالى يقول لأقوام: ((أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا)).
إذاً: فـ عمر كان خائفاً من هذه الآية أنه لو أخذ كل الطيبات في الدنيا لم يبق له شيء يوم القيامة، وهذا من التهذيب للنفس، ولم يأمرنا ربنا سبحانه بذلك، وإنما تكرم وقال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:٣١]، فنهانا عن الإسراف.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.