[تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق)]
قال الله عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الزمر:٤١]، الكتاب هو القرآن العظيم، وعبر بنون العظمة، ليدل على أنه كتاب عظيم يستحق من التعظيم ما يستحقه، ((إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ))، وفي سورة النساء، قال: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء:١٠٥]، فالله أنزل الكتاب من السماء، وهذا دليل من الأدلة على علو رب العالمين سبحانه، وأنه فوق سمواته مستو على عرشه سبحانه، وقد نزل الكتاب مع روح القدس جبريل الأمين، نزله ربه سبحانه على قلب النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه لينذر به، وليهدي به من شاء الله سبحانه.
وقوله: (الكتاب) أي: الكتاب المعهود المعروف، وهو القرآن العظيم.
(للناس بالحق) أي: إنزاله من السماء حقاً ونزل مشتملاً على الحق، ففيه الحق من عند رب العالمين، وفيه أحكام الشريعة، ليحكم بين الناس بالعدل وبالحق، فنزل حقاً من عند رب العالمين، ونزل مشتملاً على كلام رب العالمين، وعلى الشريعة الحقة من الله سبحانه.
(فمن اهتدى فلنفسه) أي: من أخذ بهذا القرآن وتمسك به فلنفسه النفع، ولنفسه الرحمة من الله سبحانه وتعالى، فالإنسان هو الذي ينتفع بتلاوة القرآن وبالعمل به، ولن ينفع ربه شيئاً سبحانه وتعالى، بل إن النفع يرجع على من يؤمن برب العالمين، ويصدق بكتابه ويعمل به.
(ومن ضل) أي: من انحرف عن طريق رب العالمين، وترك العمل بما جاء من عند رب العالمين، من جعل كتاب الله وراءه ظهرياً.
(فإنما يضل على نفسه) أي: وبال الضلال على نفسه، وشؤم ضلاله على نفسه، فهو الذي تتنزل عليه العقوبة من عند رب العالمين بسبب ضلالة.
قال: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الزمر:٤١]، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبره ربه سبحانه أن يتوكل عليه فقال: {حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:٣٨]، وأخبره أنه ليس وكيلاً على الخلق، فليس مفوضاً إليه أمر الخلائق عليه الصلاة والسلام، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:١٤٤]، {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:٢٣ - ٢٤].
إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم منذر، ومبشر، ورسول من عند رب العالمين، (ما على الرسول إلا البلاغ)، أما أن يكون وكيلاً على الخلق، ومراقباً وحفيظاً عليهم ومغيراً ما هم فيه إلى شيء آخر فهذا لا يملكه صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول له ربه سبحانه، {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:٥٦]، وهذا موافق لهذا المعنى، ولما يقول: {وََإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:٥٢]، فهو موافق له، فهو يهدي بمعنى: يدل عليه الصلاة والسلام، ولا يهدي بمعنى لا يغير ما في القلوب عليه الصلاة والسلام.
فهو عليه الدلالة يدل الناس، هذا طريق الحق فاتبعوه، لكن هل يملك أن يقهرهم على التغير عما هم فيه إلى شيء آخر؟ لا، الذي يحول القلوب هو الله سبحانه وتعالى، فليس النبي صلى الله عليه وسلم موكلاً بتغييرهم من حال إلى حال، وهو كقوله سبحانه: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:٢٢] أي: لا تملك السيطرة على القلوب، إنما يملك ذلك الله سبحانه وتعالى، فالله يغير القلوب، والنبي صلوات الله وسلامه عليه يدل على الخير الذي جاء من عند رب العالمين سبحانه، قال: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الزمر:٤١] يعني: لم نوصك عليهم، ولست مسيطراً عليهم، مغيراً لما في قلوبهم، فأنت لا تملك ذلك، وإنما يملكه الله سبحانه فهو نعم المولى، ونعم الوكيل، ونعم الحفيظ سبحانه وتعالى.