[تفسير قوله تعالى:(أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله)]
بين الله سبحانه في الآية مدى حسرة العصاة والكفار فقال سبحانه محذراً:{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ} لئلا تقول نفس، أو كراهة أن تقول، {يَا حَسْرَتَا} الأصل فيها: يا حسرتي! وكأن الإنسان ينادي على الندامة: أن تعالي يا ندامة من أجل أن أندم على ما فعلته، أو تعالي يا حسرة من أجل أن أتحسر على نفسي وعلى ما فرطت في جنب الله سبحانه! والنداء هنا يحمل معنى الاستغاثة والندب، والمعروف أن الإنسان يندب حظه ويصوت على نفسه، وقد يبكي على ما فرط وقصر.
وفي قوله تعالى:(يا حسرتا) قراءات، فيقرؤها أبو جعفر:(يا حسرتاي على ما فرطت في جنب الله) بخلاف ابن وردان فإنه يقرأ: (يا حسرتآي على ما فرطت) يُصوت على نفسه يوم القيامة فيقول ذلك (يا حسرتي)، فالأصل فيها بالياء وقلبت ألفاً للتخفيف، إذ إن الذي يُصوت يمد صوته من شدة حسرته فيقول: يا حسرتآه يمد صوته فيها، ويقف عليها رويس عن يعقوب:(يا حسرتاه) بهاء السكت عليها، ويميلها حمزة والكسائي وخلف، ويقللها الأزرق عن ورش والدوري.
وقوله سبحانه:((عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ)) أي: في ذات الله وذكره وطاعته سبحانه تبارك وتعالى، وهو حين يقول: يا حسرتاه، يستحضر ما كان في الدنيا، فيتذكر أنه كان من الممكن أن يجيره الله سبحانه ففرط في جوار الله سبحانه، ويتذكر أنه كان من الممكن أن يجعل الله سبحانه من يشفع له عنده ففرط، وقصر في ذلك.
وكل إنسان مؤمناً كان أو كافراً، باراً كان أو فاجراً، يرى أنه يوم القيامة قد ظلم نفسه، ويرى نفسه مفرطاً في جنب الله سبحانه, فالمؤمن يقول: كان يمكنني أن أعمل أكثر من ذلك، فأحظى بدرجة أعلى مما أنا فيه في الجنة، فيرى نفسه مغبوناً، والغبن: أن يرى الإنسان نفسه استعجل أو تسرع في الشيء فخسر, كمن استعجل في الشيء فاشتراه بثمن غالٍ، وكان بإمكانه أن يشتريه بمثمن أرخص أو استعجل في بيع شيء فباعه بثمن بخس ولو انتظر لباعه بثمن أعلى، فكلاهما يسمى مغبوناً، ولذا سمي يوم القيامة: يوم التغابن؛ لأن كل إنسان يرى نفسه مغبوناً في ذلك اليوم، ولو سئل: من الذي خدعك؟ لوجد أنه هو الذي خدع نفسه، فحينها يتحسر ويتألم ويخاطب نفسه: كان أمامي وقت كثير ضيعته في النوم واللهو واللعب، كم من ساعات قضيتها في الكلام الفارغ فغبنت نفسي! وقد كان بإمكاني أن أجلس وأقرأ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:١] عشر مرات فيبني الله لي قصراً في الجنة! وكان بإمكاني أن أقول: سبحان الله وبحمده مائة مرة فتغفر ذنوبي ولو كانت مثل زبد البحر, أو لو كنت قلت: لا إله إلا الله وحده لا شريك له مائة مرة كانت لي عدل عشر رقاب أعتقتها الآن -يوم القيامة-، فيرى نفسه مغبوناً قد غبن نفسه يوم القيامة؛ ولذا ينادي:{يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}[الزمر:٥٦] والمعنى: لقد فرطت كثيراً في جنب الله، وكان من الممكن أستغل عمري أكثر مما استغللته.
أما الكافر فيرى نفسه خاسراً ضائعاً يقول: فرطت في جنب الله فرطت في الإسلام فرطت في لا إله إلا الله فرطت في كلمة التوحيد ((وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ)) أي: لمن المستهزئين، فقد كنت أسخر من المؤمنين وأستهزئ بما جاءني من عند رب العالمين.