للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الجمال الفني في القرآن]

قوله تعالى: (الرياح) هي قراءة الجمهور وقراءة ابن كثير وحمزة والكسائي وخلف الريح، وفي القرآن كله غالباً تأتي كلمة الرياح والريح وفيهما نفس القراءات، فقراءة للبعض الرياح، وقراءة للبعض الآخر الريح، ولذلك ما ذكره الثعالبي من أن الرياح لم تأت في القرآن إلا بمعنى الرحمة والرزق والعكس في الريح، فكذا هنا قال الله سبحانه: ((الله الذي أرسل الريح)) على قراءة، وقراءة أخرى الرياح، فالراجح أن الريح والرياح واحد, فالريح مفرد، والرياح جمع، فالله يرسل الرياح بالرحمة منه والرزق، وكذلك يرسل الريح بالرحمة منه والرزق، وقد يعكس ذلك سبحانه ويرسلها بالعذاب على من يشاء من خلقه, كما قال تعالى: ((وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ)) فنلاحظ هنا أنه أخبر بفعل ماضٍ فقال: ((اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ))، ثم يجعلك تستحضر الحال فيعبر بالمضارع، فلم يقل بعدها فأثارت سحابة، حيث كان الأصل أن يعبر بالماضي إذ بدأ به، ولكن عبر بالمضارع؛ لاستحضار الحال وكأنك الآن مستحضر لهذه الصورة وتراها وهي تثير هذا السحاب، وهذا من التفنن القرآني، وهو أسلوب عربي معروف, فالقرآن عظيم، وفيه أساليب العرب الجميلة في البلاغة، فيأتي القرآن بهذه الأساليب التي يفهما العرب ويعرفون دقتها وجمالها، فيأتي أحياناً بصيغة الخطاب للمتكلم، وبعد ذلك يقلب الخطاب للغائب، فهنا يذكر الله سبحانه وتعالى أنه أرسل على صيغة الماضي، ثم بعدها يعبر بصيغة المضارع، فيقول العلماء: وهذا التعبير معروف عند العرب، ومن ذلك قول أحدهم وهو شاعر من الشعراء واسمه تأبط شراً حيث يصف نفسه بالشجاعة فيقول: بأني قد لقيت الغول تهوي بسهب كالصحيفة صحصحان.

فأضربها بلا دهش فخرت صريعاً لليدين وللجران.

فيقول: إنه لقي الغول، والغول عفاريت، فهو يحدث عن شجاعته، وأنها وصلت إلى درجة عظيمة بالغة حيث أنه قابل الغول لوحده في الصحراء، وكان العرب يمرون في الصحراء فتتغول الغيلان والجن، وتستهزء وتلعب بهم، فيخافون ويرتعبون ثم يشركون بالله سبحانه فيقول أحدهم: أعوذ برب هذا الوادي، يعني: استعيذ بسيد الجن في هذا الوادي، فتفرح الجن؛ لأن العرب أشركوا بالله سبحانه وعبدوهم وتعوذوا بهم من دون الله سبحانه فتتركهم يمرون، فهذا يقول: أنا قابلت الجن وحدي في الصحراء، فقال: بأني قد لقيت الغول تهوي, أي: آتية تجري نحوي , بسهب في الصحيفة صحصحان، وسهب هو الفلاة، يعني: في صحراء واسعة منبسطة مثل الكتاب الواسع، صحصحان أي: أرض مستوية واسعة، فأضربها بلا دهش فخرت.

فانتقل من بأني قد لقيت في الماضي إلى فأضربها بالمضارع، فكأنه يقول: استحضر الحال، وانظر إلي وأنا اضربها الآن ضربة شديدة، فيقول: فأضربها بلا دهش، أي: بلا خوف، فخرت صريعة لليدين وللجراني، يعني: لليدين وللفم أو للرقبة، بمعنى: سقطت على الأرض، فهذا من الأساليب البديعة عندهم أن يعبر بالماضي ثم يعبر بالمضارع, أو يعبر بضمير الغائب وبعد ذلك يعبر بضمير المتكلم أو ضمير المخاطب، وهنا ربنا سبحانه تبارك وتعالى يقول: ((وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ)) أي: أثارت السحاب وحركته، يقال: أثرت أرنباً من مكان، أي: أفزعته وحركته وجعلته يجري، فكذلك الريح تحرك السحاب من مكان إلى مكان.

<<  <  ج:
ص:  >  >>