[تفسير قوله تعالى:(فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون)]
وقال سبحانه وتعالى:{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}[المؤمنون:١٠١]، النفخ في الصور نفختان: نفخة الموت، ونفخة البعث والإحياء والنشور، فنفخة الموت يموت فيها الجميع، وبعدها يصبح الكل أمواتاً.
والنفخة الثانية: يوم يبعثون للحساب والجزاء، فإذا بعثوا فكل إنسان يفر من كل أقربائه، كما قال تعالى:{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[عبس:٣٤ - ٣٧].
قال تعالى:{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}، فعندها لا أحد ينظر إلى نسبه، بل الكل يقول: نفسي نفسي.
قال ابن عباس رضي الله عنه: لا يفتخرون بالأنساب في الآخرة كما يفتخرون بها في الدنيا.
وهناك معنى آخر: وهو أنه لا يقول الإنسان: أنا فلان بن فلان، فهذا إنما كان في الدنيا، فقد كانوا فيها يتساءلون عن أنسابهم، أما في الآخرة فلا يتساءلون عن الأنساب كما كانوا يتساءلون في الدنيا؛ لهول ما يرون، فقد قاموا مفزوعين عندما رأوا أن الملائكة تنزل من السماء وتحيط بهم وهم في فزع عظيم، فعلى ذلك لا أنساب بينهم ولا يتساءلون.
وعنه أيضاً قال: إن ذلك في النفخة الأولى حين يصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون، وصحيح إنه إذا جاء الموت فلا يسأل الناس بعضهم البعض عن الأنساب، ولكن عند القيام من القبور للحساب فهذا أشد وأفزع، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (أنهم يحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلاً)، والسيدة عائشة رضي الله عنها لما سمعت ذلك سألت النبي صلى الله عليه وسلم:(عراة ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: الأمر أشد من ذلك)، أي: أن كل إنسان مشغول بنفسه.
ولقد سأل رجل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية:{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}[الصافات:٢٧]، كيف يكون ذلك وقد قال تعالى:{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}[المؤمنون:١٠١]؟ وهنا يقول تعالى:{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}[الصافات:٥٠]، فوضح له ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقال: لا يتساءلون في النفخة الأولى؛ لأنه لا يبقى على الأرض حي.
أما قوله:{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}[الصافات:٢٧]، فذلك أنهم إذا دخلوا الجنة تساءلوا، وهذا صحيح، وقد يقال: إن ذلك في النفخة الثانية حين يبعثون من قبورهم، فلا أحد يسأل أحداً عن شيء ولكن بعد أن يفوز المؤمنون بدخولهم الجنة يسأل بعضهم بعضاً عن أشياء كانت في الدنيا، كما قال تعالى:{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}[الطور:٢٦]، أما حين قاموا من قبورهم يوم الفزع الأكبر فلا أحد يسأل أحداً عن شيء.