[تفسير قوله تعالى: (ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام)]
ذكر الله لنا آيات من آياته سبحانه، كخلق السماوات والأرض وما وردت فيهما من دلائل، وما أكثر ما يذكر لنا آياته التي تدل على وحدانيته، وأنه وحده الرب القادر، وأنه وحده الإله الذي يستحق أن يعبد سبحانه وتعالى.
ومن هذه العلامات الدالة على قدرته سبحانه وتعالى ما ذكره الله تعالى في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} [الشورى:٣٢] وفي قوله: (الجوار) ثلاث قراءات: قراءة الجمهور وصلاً ووقفاً (الجوار)، فإذا وصلوا كان بالكسرة (الجوارِ في البحر)، وقرأها ابن كثير ويعقوب (الجواري) بالياء وصلاً ووقفاً.
و (الجواري) جمع جارية، وهي السفن.
وقراءة أبي جعفر وأبي عمرو: (الجوار) وصلاًَ، و (الجواري) وقفاً.
والإنسان حين يصنع السفينة ينسى أن الله هو الذي أقدره على ذلك، وهو الذي أجرى الماء، وأرسل الرياح، وهو الذي أنزل من السماء ماء، وهو الذي أعطاك العقل لتصنع هذه السفينة، وهذه الغواصة، وهذه الطائرة، وهذه المدمرة، كما قال عز وجل: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٨].
إذاً: هو الذي خلق لكم السفن الجارية، وخلق لكم الخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة، ويخلق ما لا تعلمون، فلو قال لهم في الماضي: أنه سوف يخلق الطيارة، ويخلق السيارة، لم يفهموا شيئاً من ذلك، ولكن قال: (ويخلق ما لا تعلمون).
وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل:٩] السبيل: القاصد الذي يدلك على طريقك، وجعل عقلك يميز الطرق المختلفة، وبه تعرف كيف تسير، فالذي دلك على الطريق هو الله سبحانه وتعالى بجعله عقلك يستوعب ذلك.
وعقل الإنسان يستوعب أشياء كثيرة، لكن إذا جاء أمر الله وتاه العقل يصبح الإنسان لا يدري شيئاً، فلا يعرف زوجته ولا أخاه ولا الطريق التي كان يسير فيها.
فتعرف نعمة الله عليك، واشكره على النعمة التي أعطاك؛ حتى يزيدك من فضله، فلا تنسب الفضل لنفسك.
فإذا تعاظم الإنسان في نفسه، وادعى الفضل لها، إذا بالله يريه آية من آياته: ((وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ)).
والجواري: السفن العظيمة التي تسير في البحر، وأول ما علم الله عز وجل صناعة السفن لنوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فصنع نوح السفينة، وكان قومه يمرون به ويهزءون ويضحكون ويسألون: ما هذا؟ فيقول: سفينة، فيقولون: وما السفينة؟ قال: تمشي على الماء.
فيضحكون منه، أين الماء الذي سوف تمشي فيه؟! قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود:٤٠] جاءت المعجزة، فإن كنتم متعجبين من سفينة موجودة في الصحراء؛ فسوف نجعل فرن النار يخرج منه الماء.
ولم يمض سوى وقت يسير وإذا بالسفينة يأتيها الماء إلى الصحراء؛ حتى تسير هذه السفينة بأمر الله.
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:٤٠] جرت السفينة في البحر، فعلم الله عز وجل نبيه نوحاً عليه السلام أن يقول: باسم الله مجراها ومرساها، كما قال تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود:٤١] أي: أُسمي الله في أول مسيرها، وأسمي الله حين تقف، باسم الله وببركة الله، وبقدرة الله يكون مجرى هذه السفينة ووقوفها.
فإذا تعاظم الإنسان لصنعه السفينة وقال: أنا صنعتها، فإن الله يغرقها، ولما صنع الغرب سفينة سموها: السفينة التي لا تقهر، وركب فيها أغنى أغنياء العالم بثرواتهم لأجل أن يفتخروا أنهم ركبوا أعظم سفينة على وجه الأرض، فتأتي دوامة تلفها، ثم تقسمها نصفين وتغرقها.
يطلع الإنسان بالصاروخ إلى الفضاء، ويظن أنه قهر الفضاء، فإذا به يصنع مثله فلا ينطلق، فعندما يتعاظم الإنسان على خالقه، ويكفر بخالقه سبحانه، ويبغي ويطغى يأتيه التأديب من رب السماء سبحانه وتعالى.
إذا كانت هذه السفينة التي يصعد بها إلى القمر، فهناك مخلوقات خلقها الله عز وجل تصعد أبعد من ذلك، فالجن خلقهم الله وأنت لا تراهم، وجعل الله سبحانه وتعالى فيهم القدرة أن يتشكلوا بما يشاء الله سبحانه، وقد كانوا يصعدون ويسترقون السمع من السماء، فقد كانوا يركب بعضهم على بعض حتى يصلوا إلى السماء، ويسترقوا أخبار السماء بما يشاء الله، ثم تتبعهم شهب تحرقهم.
فهذه المخلوقات صعدت دون أن تحتاج لما يحتاجه الإنسان، إلا أن الله عز وجل منعهم، وأخبر سبحانه وتعالى بذلك فقال: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر:١٨].
إذاً: من ضمن آيات الله المثيرة العظيمة التي ترونها: السفينة الجارية في البحر كالأعلام، أي: كالجبال، والعلم هو الجبل، والقصر العظيم، فالسفينة مثل القصر، فهي ممتلئة بالغرف، وهي شيء عظيم في البحر، ويحملها الماء بقدرة الله تبارك وتعالى.