ثم قال سبحانه:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}[الحج:٢٨]، فقوله:{فَكُلُوا مِنْهَا}[الحج:٢٨] هذا الأمر من الله عز وجل لعباده يفيد النفع لهم، قال:{فَكُلُوا مِنْهَا}[الحج:٢٨]، فهو تفضل من الله تعالى، ولو شاء سبحانه لأمر بإخراجه كله في سبيله سبحانه وتعالى، ولأخرج للفقراء والمساكين، لكن الله سبحانه تكرم على هؤلاء الذين حجوا وقطعوا المسافات الطويلة حتى وصلوا إلى هنالك، بأن يأكلوا من هديهم دونما حرج، والأمر هنا: أمر إرشاد، وليس أمر وجوب، فيجوز له أن يأكل من هدي التمتع، أو هدي القران، أو هدي التطوع، لكن الهدي الواجب عليه غير ما ذكرناه: كجزاء الصيد مثلاً، كأن يقتل إنسان صيداً في الحرم، أو يكون قد أحصر، أو كانت عليه فدية: كإزالة الأذى بالترفه ونحوه، أو كان عليه هدي بالنذر، فهذه من الواجبات التي لا يجوز له أن يأكل من هديه فيها، فإذا نذر هدياً لبيت الله الحرام ذبحه ولا يجوز له أن يأكل منه.
فإذا كان قد قتل صيداً في الحرم وذبح هدياً فلا يجوز له أن يأكل منه، وإذا ترفه بإزالة أذى كحلق رأسه في أثناء الإحرام أو وضع طيب ونحو ذلك وكان عليه الهدي فيه فلا يجوز له أن يأكل منه، وإنما يجوز له أن يأكل من هدي التمتع، أو هدي القران، أو هدي التطوع.
قال الله سبحانه وتعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}[الحج:٢٨]، وهذا في القران، فقد قرن في الأمرين بين الأكل والإطعام، وقد فرق العلماء بين الأمرين: فإطعام الفقراء فرض؛ لأن المقصد من الذبح: هو سد جوع هؤلاء وحاجتهم، لكن يجوز لك أن تأكل منه أيضاً؛ فقد أكل النبي صلى الله عليه وسلم من هديه بعد أن نحر مائة ناقة صلوات الله وسلامه عليه في حجة الوداع، فنحر بيده الكريمة نحو ثلاثة وستين وأكمل الباقي علي رضي الله تعالى عنه، فأخذ من كل واحدة منها قطعة من اللحم ووضعها جميعاً في القدر وأكل منها صلوات الله وسلامه عليه، فكونه أكل منها يبين لنا أنه يجوز لك أن تأكل من ذلك.
قال:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}[الحج:٢٨]، وهنا يقول الأصوليون: إن دلالة الاقتران دلالة ضعيفة، يعني: أنه إذا اقترن أمران أحدهما للوجوب والآخر للاستحباب فإنه لا يقال حينئذ: إن الاثنين للاستحباب أو للقران، ولكن:{فَكُلُوا مِنْهَا}[الحج:٢٨]، فأهل العلم يقولون: إن لك أن تأكل أو تترك؛ لأن الأكل ليس فرضاً أو أمراً تعبدياً، ولكن العبادة إطعام:{وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}[الحج:٢٨]، أي: الذي من أجله شرع الهدي، {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}[الحج:٢٨].
والبائس الفقير: هو الإنسان الذي ناله البؤس والفقر الشديد، يقال: بئس يبؤس بأساً إذا افتقر، فإذا افتقر الإنسان صار بائساً، وقد يستعمل فيمن نزلت به نازلة من الدهر أو مصيبة من المصائب، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في سعد بن خولة الذي كان قد هاجر من مكة إلى المدينة ثم ذهب مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ومات بها، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب لأصحابه المهاجرين الموت في غير المكان الذي هاجروا منه، فما كان للمهاجرين الموت في مكة؛ لكي تكتب لهم الحسنات من مكان هجرتهم إلى مكان موتهم في غيرها من البلدان، فالنبي صلى الله عليه وسلم حزن لفوات هذا الأجر عليه رضي الله عنه فقال:(ولكن البائس سعد بن خولة) يعني: أنه ضاع منه بعض الأجر، فالشاهد: أن الله سبحانه وتعالى قد أمر بذبح الهدي.