وصف الله سبحانه وتعالى قوم عاد بالقوة العظيمة والتمكين في الأرض، وذكر ما عاشوا فيه من قصور كانوا ينحتونها في جلاميد الجبال، وذلك دليل على قوتهم، فالناس الآن لا يبنون القصور إلا بالاستعانة بالآلات، ومن الصعب أن ينحت الإنسان الصخر في هذه الأيام، ولذلك لم يؤتَ أحد بعدهم مثل ما أعطاهم الله عز وجل من قوة عظيمة، فلم تغني عنهم هذه القوة كما صور لنا ربنا سبحانه، وقد رأينا كيف أن القوة قد تطغي صاحبها فيستشعر أنه فوق كل شيء، فإذا بالله عز وجل يأتيه بعذاب من عنده يدمر كل شيء، قال الله تعالى:{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ}.
إن قوم عاد إرم ذات العماد كانوا في جنوب الجزيرة العربية أي: في جنوب السعودية في منطقة الربع الخالي، بينها وبين حضرموت في اليمن، والتنقيبات والحفر الأثرية التي يحفرونها دلتهم على أنه كان في تلك الأماكن حضارة وأنه كان فيها قصور عظيمة شاهقة، وجبال منحوتة، فقد كانوا ينحتونها ويصنعون منها قصورهم.
وهذه الأماكن التي كانت في يوم من الأيام مهداً لحضارة هؤلاء صارت الآن رمالاً قاحلة، وصحراء عظيمة شاسعة واسعة، فهذه هي ديار قوم عاد الذين كانوا فيها، فلما أهلكهم الله سبحانه وتعالى كان لهم فرع آخر من هؤلاء في الشمال بين الجزيرة وبين الشام، وهم ثمود أصحاب القصور المنحوتة من الجبال كما سبق، وقد أخبر الله عز وجل عنهم وعن تكذيبهم، وأنهم لم يتعظوا بما جرى لأبناء عمومتهم -قوم عاد- من إهلاك الله عز وجل لهم، ففسقوا وعتوا عن أمر الله فأهلكهم الله سبحانه وتعالى.
وذكر الله سبحانه في سورة الشعراء كيف مكن قوم عاد وأعطاهم من نعمه، وأن نبيهم هود عليه الصلاة والسلام ذكرهم بالله سبحانه وتعالى، وأنه مكن لهم في الأرض، فعبدوا غيره، قال الله تعالى عن هود أنه قال لهم:{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}[الشعراء:١٢٨ - ١٣١]، فيدعوهم إلى ربهم سبحانه وتعالى الذي خلقهم وأعطاهم ورزقهم تلك المباني العظيمة، والأفكار التي يصنعون من ورائها أشياء لا يعبدون الله سبحانه بها، ولكن يفتخرون على غيرهم من الأمم، فقال:{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ}[الشعراء:١٢٨]، الآية هنا هي القصر العظيم، والعلامة الشامخة الشاهقة، فيفتخرون بذلك لعباً وعبثاً وإظهاراً للقوة، وكأنه سبحانه يذكر المسلمين ويحذرهم أن يصنعوا مثل هؤلاء، فإنه قد أعطاهم تلك النعم ليعبدوا الله عز وجل بها، وليعرفوا ربهم سبحانه ويشكروه على ما آتاهم، ويستغلوا هذه النعمة فيما يرضي الله، لا فيما يغضبه سبحانه.
ولذلك لما ذكر هذه القصة في سورة الأحقاف قال في آخرها:{وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[الأحقاف:٢٦]، فلما كفروا ما أغنى عنهم هذا الذي أعطاهم الله عز وجل، فقد كان لهم سمع يسمعون به المواعظ، ويسمعون به ما يريده الله عز وجل منهم، كما كان لهم بصر يبصرون به آيات الله سبحانه، وما آتاهم من نعم، وما يدعوهم إليه سبحانه، فيسمعون ويبصرون، ويرسل إليهم الرسل؛ ليدعوهم إلى الله عز وجل، فسمعوا ما قال، ورأوا ما أخبر عن ربه صلوات الله وسلامه عليه، وجعل الله لهم قلوباً وأفئدة يعقلون بها، ولكن ما أغنى عنهم ذلك كله؛ لأنهم كانوا يجحدون بآيات الله، فقضى على قلوبهم بأن ختم عليها، فلا يفهمون ولا يعقلون عن الله عز وجل شيئاً.
فهنا يقول الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} في المكان الذي أنت فيه في الجنوب كان قوم عاد، وهذه السورة مكية، فكأن الله تعالى يسلي بها النبي صلى الله عليه وسلم ويصبره بأن أبا جهل الملعون وغيره ممن كانوا يشتمون النبي صلى الله عليه وسلم ويسبونه ستكون عاقبتهم كعاقبة قوم عاد.
وقوله:((وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ)) أي: أخوهم في النسب وليس أخاً لهم في الدين، فهم كفار وهو مسلم، ولكنه من القبيلة نفسها، فهو: هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد، فجده الثالث هو عاد، وهؤلاء من أحفاد عاد أيضاً.