تفسير قوله تعالى: (ولوطاً آتيناه حكماً وعلماً)
وقوله تعالى: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:٧٤].
انظر إلى جمال القرآن، فهذا انتقال من شيء إلى شيء، فانتقل أولاً من قصة موسى وهارون إلى قصة إبراهيم، ومنها إلى قصة لوط، ثم يذكر نوحاً بعد ذلك، فينتقل من قصة لأخرى بطريقة.
والانتقال بهذه الصورة من قصة إلى قصة أخرى يسمى في علم البلاغة: حسن التخلص، فينتقل من قصة إلى أخرى من غير أن يقول مثلاً: مشهد جديد، وإنما هي كلها متصلة ببعضها، ويخرج من شيء إلى شيء من غير أن تشعر أنك خرجت ودخلت في شيء آخر.
سيدنا لوط عليه السلام هاجر مع إبراهيم من ديار العراق إلى الشام، وكان في طرف الروم يدعوهم إلى رب العالمين سبحانه وتعالى، وكانت سبع قرى في سدوم يدعوهم لوط عليه الصلاة والسلام.
وقوله: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:٧٤] الحكم: النبوة، فيحكم بين الناس بأمر الله سبحانه وتعالى، وآتاه الله علماً ومعرفة بأمر الدين، وما يقع به الحكم صحيحاً مستقيماً.
وقوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} [الأنبياء:٧٤] هنا ذكر الله عن الأنبياء أشياء مختصرة، وقد طول الله قصة سيدنا لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام في الحجر، وكذا في سورة هود وسورة العنكبوت، وذكره بصورة متوسطة في الأعراف، أما في هذه السورة فذكرت بصورة مختصرة، وفي النجم إشارة بسيطة إليها في قوله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} [النجم:٥٣ - ٥٥].
فهنا ذكرها في هذه الإشارة؛ لأن القرآن يطيل في مواضع ويقصر في مواضع ويشير في أخرى، فهنا يقول الله لنا: {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} [الأنبياء:٧٤] والخبائث: هي إتيان الذكران من العالمين، وذكر الله في الشعراء أنه قال لهم: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء:١٦٥ - ١٦٦].
وكان جوابهم على لوط: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشعراء:١٦٧ - ١٦٨] أي: أنا مبغض لهذا العمل الكريه الذي تفعلونه.
ثم قال: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} [الشعراء:١٦٩] فأنجاه الله عز وجل بما دبره له وذكره في سورة الحجر وفي هود قبل ذلك.
قال سبحانه وتعالى هنا: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} [الأنبياء:٧٤] السوء في طباعهم، فهم فسقة خرجوا عن الدين وعن طاعة الله سبحانه وتعالى.
وأصل الفسق: الخروج، مثلما تقول: فسقت الرطبة، يعني: خرجت البلحة من قشرتها، فهؤلاء فسقوا، أي: خرجوا عن طاعة الله رب العالمين، فأصبحوا كما أخبر الله بقوله: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:٥٣] المؤتفكات هي قرى قوم لوط، يعني: من كانوا أصحاب الإثم والبعد عن الله سبحانه وتعالى، والجريمة الفظيعة التي لم تعمل في الأرض قبل هؤلاء القوم هي إتيان الذكران من العالمين.
ولفظ: (أَهْوَى) يشعر بأنه من فوق إلى تحت؛ لأن جبريل رفعها إلى السماء، ثم قلبها على من فيها، وأتبعهم ربهم سبحانه بحجارة من سجيل منضود، وصفها الله بقوله: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:٨٣].
فأهلكهم بهذه الصورة، أي: رفعوا إلى السماء وقلبت بهم أرضهم وأتبعوا بحجارة من نار جهنم، والعياذ بالله.
لكن لوطاً ومن معه نجاهم الله عز وجل برحمته سبحانه، كما قال الله: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء:٧٥].
(إنه) هنا بمعنى: (لأن)، فأتى الحكم وبعده التعليل، فيكون المعنى: أنجيناه لأنه من الصالحين.
أو: أنجيناه بصلاحه عليه الصلاة والسلام، ويوم القيامة ندخله برحمتنا في جنتنا، ونجعله من أهل الشفاعة الذين يشفعون لمن يشاء الله عز وجل.
أو معنى: ((أَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا)) أي: وفقناه في الدنيا، فوهبناه النبوة، ويوم القيامة نجعله في الجنة.