[تفسير قوله تعالى: (وله من في السموات والأرض يسبحون الليل والنهار لا يفترون)]
قال الله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء:١٩].
وقال تعالى: {َمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} [ص:٢٧]، أي: خلق السماوات فهو يملكها بما فيها.
وقال هنا: (وَلَهُ مَنْ) (من) للعاقل، أي: له كل من يعقل في السماوات وكل من يعقل في الأرضين، وهنا غلب العقلاء وإلا فهو يملك سبحانه من يعقل ومن لا يعقل.
وأحياناً يذكر ما في السماوات وأحياناً يذكر من في السماوات والأرض، فقوله: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ) اللام هنا تفيد الملك، فهو سبحانه يملك من في السماوات والأرض، كما تقول: هذا الكتاب لي وأنا أملكه.
فقوله: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) أي: أن الله سبحانه وتعالى يملك الخلائق كلها ويعلم أفعالهم وما يقولون.
ثم قال: (وَمَنْ عِنْدَهُ) هنا تفضيل للملائكة على البشر؛ لأن البشر فيهم من يعصون وفيهم من يطيعون، أما الملائكة الذين عند الله فهم لا يعصون الله سبحانه وتعالى ما أمره.
فهذه الآية مما يحتج بها على أن الملائكة أفضل من البشر، وخلق الله عز وجل البشر من طين، وخلق الملائكة من نور، ففضلهم بخلقتهم، وإن كان قد خلق الله من البشر من هو أفضل من الملائكة، وأقرب إلى الله عز وجل من الملائكة، وهو نبينا صلوات الله وسلامه عليه، لقد ارتفع جبريل إلى أقصى سدرة المنتهى وما استطاع أن يجاوز، ونبينا صلى الله عليه وسلم رفعه الله عز وجل وجاوز به ما شاء سبحانه وتعالى.
فإذا كان سبحانه قد فضل محمداً صلى الله عليه وسلم على الملائكة فلا مانع من أن يفضل غيره من الأنبياء على الملائكة، ولكن ليس معنى ذلك أن نفضل جنس البشر على الملائكة؛ لأن الملائكة جنس لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، أما البشر ففيهم من يطيع ويعصي، فجنس الملائكة أفضل، ولكن هناك آحاد من البشر فضلهم الله عز وجل على الملائكة.
فهؤلاء الملائكة الذين عند رب العالمين سبحانه لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، فهم يعبدون الله عز وجل ولا ينقطعون إعياءً، ولا يصيبهم الملل والسآمة والتعب والمرض، إنما يعبدون الله عز وجل إلى ما يشاء الله سبحانه، فهم منذ خلقهم الله عز وجل مستمرون على عبادته سبحانه، فمنهم من هم قائمون يذكرون الله، ومنهم من هم راكعون يسبحون الله، ومنهم من هم ساجدون لله، وذلك إلى أن تقوم الساعة، ومع ذلك يقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، وهم الذين لم يعصوا ربهم سبحانه وتعالى أبداً.
قوله: (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) منه: حسر نظر الإنسان حسوراً أي: كلَّ وانقطع من طول المدى، فهذا هو الاستحسار، وتقول: إن البعير أحسر، بمعنى أعيا وتعب من كثرة المشي، فالملائكة لا يتعبون ولا ينقطعون عن عبادة ربهم سبحانه.
قوله: (لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي: لا يستنكفون ولا يستكبرون عن عبادة الله ولا يملون.
قال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:٢٠] أي: يسبحون الله تعالى الليل والنهار، وينزهون الله سبحانه وتعالى، فيقولون: سبحان الله.
قوله: (لا يفترون) يعتري الإنسان فتور فهو يريد أن يستريح قليلاً، فتراه يترك ما هو فيه، والإنسان إذا أكثر من الذكر والكلام تعب لسانه، أما الملائكة فلا يتعبون من ذلك، ولذلك قال رجل من التابعين وهو عبد الله بن الحارث: جلست إلى كعب الأحبار وأنا غلام، فقلت له: أرأيت قول الله تعالى للملائكة: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:٢٠] أما يشغلهم عن التسبيح الكلام والرسالة والعمل؟ فقال: من هذا الغلام؟ فقالوا: من بني عبد المطلب، قال: فقبل رأسي ثم قال: يا بني! إنه جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس، أليس تتكلم وأنت تتنفس وتمشي وأنت تتنفس؟! كذلك أهل الجنة يتفضل الله عز وجل عليهم ويكافئهم بأن يلهمهم التسبيح كما يلهمهم النفس.
فإذاً: إذا كان الإنسان يأكل ويشرب ويتنفس ولا يحس أنه يتنفس، فكذلك التسبيح والذكر بالنسبة للملائكة وأهل الجنة، فأهل الجنة يلهمون التسبيح فلا يشغلهم شيء عن هذا.