[عظم آيتي الليل والنهار]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة يس: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ * وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ * وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ * إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [يس:٤٥ - ٤٤].
يعدد الله سبحانه وتعالى لنا نعمه على عباده في هذه الآيات وما قبلها، ومما ذكره قبل ذلك أن قال: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس:٣٣]، آية وعبرة وعظة للخلق ومعجزة تدل على قدرة الخالق تبارك وتعالى، أرض ميتة ينزل الله عز وجل عليها المطر فيحيي هذه الأرض بعد موتها، ويخلق فيها ما يشاء سبحانه وتعالى من بساتين وحقول، وأصناف الزروع وثمار الحبوب، يخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير، فيذكر ذلك ثم يقول: {أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس:٣٥] أي: هلا شكروا الله سبحانه على نعمه التي خلقها وسخرها لهم وصنعوا منها بعقولهم وبقوتهم التي أعطاهم الله سبحانه ما يشاءون.
قال سبحانه: ((لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ))، ليأكلوا من الثمار التي خلقها الله سبحانه ومما يصنعونه هم بأيديهم، ((وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ)) هذا المعنى الآخر: أنها لم تعمل أيديهم هذه الأشياء، فلا أنزلت أيديهم المطر من السماء، ولا خلقت العيون في الأرض، ولا أخرجت الحبوب منها والثمار، ولكن الله الذي خلق ذلك، أفلا يشكرون الله ويعبدونه وحده لا شريك له.
قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يس:٣٦]، كما قال: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:٤٩] خلق من الأنعام زوجين الذكر والأنثى، ومن الحشرات كذلك، ومن الدواب كذلك، ومن الإنس كذلك، وقال لنا هنا: ((سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ))، فأخرج لنا الأنواع والأصناف كلها مما تنبت الأرض، ((وَمِنْ أَنفُسِهِمْ)) ومن أنفس الخلق خلق الزوجين الذكر والأنثى، ((وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ)) يخلق ما يشاء، هذه من آياته العظيمة.
ومن آياته أيضاً: الليل والنهار، قال سبحانه: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس:٣٧].
وهذا التعبير الدقيق في كتاب الله سبحانه وتعالى يرينا هذه الآية العظيمة، ((وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ)) كأن هذا ينسلخ من ذاك، فيبدو للناس الليل ويظهر للناس النهار على ما يريهم الله سبحانه تبارك وتعالى.
يقول أهل العلم: إن الليل يحيط بالأرض من كل مكان، والنهار جزء بسيط إذا قورن بالليل الذي يحيط بالكرة الأرضية من كل مكان، والجزء الذي تتكون فيه حالة النهار هو الهواء الذي يحيط بالأرض، فحينما تنعكس أشعة الشمس على هذا الهواء المحيط بالأرض في الجزء المواجه للشمس إذا بهذا الجزء مضيء، والأرض تدور، فإذا دارت فكأنه ينسلخ عنها هذا الجزء من النهار ويصير ليلاً في المكان الذي دارت إليه، وهكذا لا تزال تدور ويتعاقب فيكم الليل والنهار بمثل ذلك، وهذا لا يكون إلا والأرض على هيئة الدوران، {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر:٥]، فالكرة الأرضية كالكرة تدور، وفي أثناء دورانها يتعاقب عليها الليل والنهار، وينسلخ النهار من الليل على ما يريد الله سبحانه وتعالى.
{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس:٣٧]، الكون كله ليل، وجزء من الكون وهو الهواء الذي فوق الأرض يظهر فيه النهار، ثم ينسلخ بدوران الأرض كما ينسلخ الجلد من فوق الضحية التي تذبحها، قال الله سبحانه: {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس:٣٧] فالجزء الذي كان مضيئاً من الأرض دار فانسلخ منه نهاره فهم مظلمون الآن.