[تفسير قوله تعالى: (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعدما تبين لهم الهدى)]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:٢٥ - ٣٠].
لما ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه السورة الكريمة: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:٢٢ - ٢٣].
هل عسيتم إن مكنكم الله عز وجل وأعطاكم ولايات ورئاسات ووزارات وحكماً تحكمون بين الناس، وقدرة على ذلك، أن ترتدوا على أدباركم، وتعرضوا عن ذكر الله سبحانه وشرعه، وتقيموا الظلم بين الناس، وتعرضوا عن هذا الدين، وتتبعوا الهوى والشياطين، وتقطعوا أرحامكم؟ هل عسيتم أن تفعلوا ذلك فترتدوا على أدباركم، وتعكسوا ما أمركم الله عز وجل بوصله وفعله؟ {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:٨٢] أي: هلا تدبروا كتاب الله عز وجل وقرءوه واستمعوا له، وفهموا ما يريده الله عز وجل ففعلوه.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} [محمد:٢٥] وهنا بعدما ذكر: لعلكم إذا فتح الله لكم، وأعطاكم من فضله، أن تنقلبوا على أعقابكم القهقرى، فهؤلاء الذين هذا حالهم يقول الله سبحانه لهم: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد:٢٥].
مشوا في طريق الشيطان وتركوا طريق الله سبحانه تبارك وتعالى، وتركوا الصواب بعدما عرفوه، وتركوا القرآن بعدما فهموا معانيه، (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ) ردة رجوع على الأعقاب إلى الورى، بعدما كانوا متقدمين في دين الله عز وجل، وصاروا متأخرين تاركين الدين وراء ظهورهم؛ لا يضرون إلا أنفسهم، {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} [محمد:٢٥] من بعدما عرفوا الحق، وسمعوا كتاب الله، وهدي النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهؤلاء الشيطان سول لهم، وضحك عليهم، وخدعهم، وزين لهم الأماني الباطلة.
(وأملى لهم) الجمهور يقرءونها هكذا، والبصريون يقرءونها قراءة أخرى، فـ أبو عمرو البصري يقرؤها: (وأملِيَ لهم) ويقرؤها: (وأملِيْ لهم)، وهنا الآية تعددت القراءات فيها فكأنها تتعدد المعاني، وكأن الآية آيتان بحسب القراءة، فهنا يقول سبحانه: الشيطان سول لهؤلاء، (وأملى لهم) أي: أملى لهم الله سبحانه تبارك وتعالى، فالله عز وجل يقول: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:٨٤] أي: نحضر ونجهز لهم المصائب والعذاب، ففهم من المعنى: أن الشيطان يضحك عليهم، ويخدعهم، وقد حذرهم الله عز وجل من الشيطان، فقال: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:٧٦]، الشيطان سول وزين لهم، فقال: {وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد:٢٥] أي: أملى لهم ربهم سبحانه، وأعد لهم العذاب، وهذه قراءة الجمهور.
وقراءة أبي عمرو توضح ذلك قال: (وأملِيَ لهم) على البناء للمجهول، يعني: قد أعد لهم المصائب والعذاب، (أملي لهم) من الذي أملى لهم؟ الله سبحانه، يعني: مد لهم في العمر وتركهم، وصبر عليهم، وحلم عنهم سبحانه تبارك وتعالى حتى يأخذهم فيقصمهم ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وقراءة يعقوب الحضرمي يقرأ: (وأملِيْ لهم) فبعدما قال عن الشيطان: (سول لهم) قال: وأنا أملي لهم، أي: أحضر لهم، وأجهز لهم من العذاب ما لا يطيقون منه.
إذاً: على هذه القراءات: الله عز وجل أملى لهم، وعلى قراءة الجمهور: تحتمل معنىً آخر، وهو: أن الشيطان هو الذي سول وأملى لهم، والمعنى: أنه جعلهم يتمهلون ويتريثون ويبتعدون عن التقدم في دين الله عز وجل.
إذاً: هذه المعاني كلها صحيحة، فإن الشيطان خدع هؤلاء، فجعلهم يسوفون، وأملى لهم فقال: استمهلوا واصبروا لا تستعجلون، الموت متأخر.
إذاً: هذا من إملاء الشيطان على هؤلاء، أنه يجعلهم يتمهلون عن التوبة، ويتركون اتباع دين الله عز وجل، فيخدعهم، ويزين لهم أعمالهم، وجعلهم يتمهلون، فهذا على معنى.
والمعنى الآخر: وأملى لهم ربهم سبحانه بأن مد لهم، فإذا بهم يتمهلون، ويسيرون في طريق يظنون أن النهاية حسنة فيه، وأنهم أرادوا الدنيا حيث زينت لهم، والشيطان سول لهم هذه الحياة الدنيا، وإن كان التزيين حقيقة من الله عز وجل، الله هو الذي يزين سبحانه تبارك وتعالى، زين الدنيا فخدعت هؤلاء، فالله خلق الدنيا وقال لنا: لا تغتروا بهذه الدنيا، فيها الورود، ولكن فيها الأشواك، وفيها الحلو ولكن فيه المرارات، وفي هذه الدنيا العابرة يراها الإنسان حلوة، ولكن إذا خبرها وجد في صفوها الكدر، وفي حلوها المر، وفي وردها الشوك، وفيما ينظر إليه من سعادة فإن وراءه الشقاء، فلا توجد سعادة في هذه الدنيا تدوم، لذلك المؤمن العاقل همه في الدنيا أن يرضي الله سبحانه تبارك وتعالى، لا أن يأخذ الدنيا؛ لأن الدنيا زينها الله سبحانه تبارك وتعالى لخلقه، والشيطان زين للعباد فيها أن يعصوا الله سبحانه تبارك وتعالى، فإذا بهم يخدعون، الله يبيح لهم الزواج، والشيطان يشجعهم على الزنا، الله يمنعهم من شرب الخمر، والشيطان يجعلهم يقعون في شربها ويتبعون الهوى، ويزعمون أن الخمر تشجعهم، وتزيل غمومهم، وغير ذلك.
إذاً: التزيين من الله عز وجل خلقة، فيخلق الشيء حسناً، والتزيين من الشيطان أن يجعل العبد يستحلي الشيء المر، ويستعذب أن يقع في معصية الله سبحانه تبارك وتعالى، فهذا الشيطان يسول لهؤلاء أن يقعوا في المعاصي، ويزين لهم ويدفعهم، ويحثهم على أن يقعوا في معصية الله عز وجل، وأملى لهم الشيطان أي: أمد لهم في الغي، وأملى لهم الرحمن بمعنى: أمهلهم وصبر عليهم، وأعد لهم ما يستحقون من عقوبة وعذاب نسأل الله العفو والعافية!