تفسير قوله تعالى: (أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم)
قال الله تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات:٦٢]، أذلك الذي رأيتموه من النعيم العظيم، ومن الجنات العظيمة خير في النزل، {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ}، والنزل أصله: الطعام الذي يكون للضيف، أي: قرى الضيف، وكأنه طعام عظيم يستحق أن ينزل الإنسان فيه، فتقول: أعددت لفلان نزلاً، وتقول: تعال انزل عندي؛ لكي تأكل، فمن عظيم الأكل الذي عندك ينزل عندك، فالنزل: القرى والطعام العظيم الذي يكون للضيف، أهذه الجنة العظيمة وما فيها من فواكه ومن طعام خير نزلاً؟ أي: منزلة ينزل فيها الإنسان من أجل ما فيها، {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات:٦٢]، نسأل الله العفو والعافية! شجرة الزقوم هذه قال الله فيها: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:٦٣ - ٦٥]، هذه شجرة الزقوم مأخوذة من التزقم، أي: التلقم، يلقم اللقمة في فمه ويكره عليها وتدفع في فمه، فهو يتزقمه ويأكله ولا يكاد يسيغه، لا يقدر عليه من مرارته وشوكه، ومن الأذى الذي فيه ومن نتنه، فهو يتزقمه وتدفع في فمه كرهاً، فذلك النعيم الذي فيه أهل الجنة وما يشتهونه من لحوم الطير والفواكه، ومن نعيم مقيم خير نزلاً أم هذه الشجرة من الزقوم؟ قال تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:٤٣ - ٤٦].
فانظر إلى هذه الشجرة التي جعلها الله عز وجل فتنة لهؤلاء الكافرين، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات:٦٣]، فكانوا يسمعون عن شجرة الزقوم أنها في النار، فيقولون: النار تحرق الشجر، فكيف تنبت شجرة في النار والأصل عندنا أن هذه الشجرة تحرقها النار؟! فيتهكم الكفار على النبي صلى الله عليه وسلم، ويسأل بعضهم بعضاً، ويأتيهم رجل من أفريقيا يسألونه: هل تعرف شجرة الزقوم؟ يقول: نعم، عندنا الزقوم الذي هو تمر بالزبد، فيضحكون ويتقهقهون ويقول بعضهم لبعض: تعالوا نتزقمها تزقماً، عرفنا أن الزقوم الزبد بالتمر! فكان أبو جهل يصنع لهم ذلك ويقول: تعالوا نتزقم، ويقول بعضهم لبعض: يخوفنا محمد -صلى الله عليه وسلم- بشجرة الزقوم وعرفنا أخيراً ما الزقوم الذي يخوفنا منه! والله عز وجل جعلها فتنة لهم لغبائهم وبعدهم عن دين الله عز وجل، ولسخريتهم من النبي صلى الله عليه وسلم وضح وبين لهم ما هذه الشجرة البشعة التي يسخرون منها، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات:٦٣]، والشجرة الملعونة شجرة ليس فيها رحمة، بل هي شجرة مطرودة من رحمة الله، فهي في أصل الجحيم، تنبت وتتفرع من داخل الجحيم من قعرها، وتخرج أغصانها وأوراقها إلى أعلى الجحيم ليأكل منها كل من في النار والعياذ بالله، كما قال تعالى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات:٦٤]، وقال تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان:٤٣ - ٤٤] أي: طعام كل آثم استحق اللعنة، {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان:٤٥] أي: إذا نزلت إلى بطون هؤلاء صارت كالمهل، والمهل هو: الزيت المغلي، والمهل أيضاً: الصديد والعياذ بالله، فهو شيء حار جداً ينزل في بطونهم.
فقوله تعالى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات:٦٤] أي: أصل منبتها في قعر الجحيم، وقوله تعالى: {طَلْعُهَا} [الصافات:٦٥] أي: ما يطلع منها من ثمار، {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:٦٥]، فهي بشعة في طعمها، ومخيفة رهيبة في منظرها في نار الجحيم، ولم نر نحن الشياطين، ولكن عندما يسأل كل إنسان عن الشيطان ما شكله؟ فإنه يستبشع منظر الشيطان وهو لم يره، فهذا يجعله الله لنا تشبيهاً، والله عز وجل أخفاه عنا حتى لا نراه بفضله وبكرمه سبحانه وتعالى.
فيخبرنا الله أن هذه الشجرة منظرها كمنظر الشياطين وأنتم لم تروها، ولكن في قلوبكم قبح منظر الشيطان، إذ إن منظره قبيح جداً، قال الله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:٦٥]، والعادة عند الإنسان أنه إذا استوحش من شيء يقول: هذا مثل الشيطان، وإذا أحب شيئاً يقول: هذا ملاك؛ ولذلك في قصة امرأة العزيز لما خرج يوسف، {وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:٣١].
فالإنسان لما يرى الصورة الحسنة يقول: ملك، وإن لم ير منظر الملك، ولكن تخيل أنه أجمل ما يكون وهو حقيقة، والشيطان أبشع ما يكون، والله بفضله وكرمه واراه عنا فلا ننظر إلى قبيح منظره، فالله سبحانه بفضله وكرمه يمن على العباد بأن يخفي عنهم ما يؤذيهم وما يستبشعونه من منظر الشيطان.
فطلع هذه الشجرة في الجحيم ثمارها، {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:٦٥].
((فإنهم)) أي: أهل النار المجرمون الآثمون، {لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} [الصافات:٦٦]، فهو طعام يكرهه الإنسان، ولكن يأكله جبراً وقهراً واضطراراً، إذ يوضع في فمه ويلقمه، فإنهم لآكلون منها مدفوعة إلى حلوقهم، ومدفوعة إلى بطونهم.
وقراءة الجمهور: ((فَمَالِئُونَ))، وقراءة أبي جعفر: ((فَمَالُِونَ مِنْهَا الْبُطُونَ)).
قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} [الصافات:٦٧]، ثم إن لهم الشوب وهو الخلط، إذ هذه الشجرة بمرارتها ونتنها وغصتها في حلوقهم يسيغونها بماء الحميم، وهو ماء بلغ نهاية درجة الحرارة والعياذ بالله.
فالماء في الدنيا حين يغلي يتبخر، لكن الماء في جهنم لا يتبخر، بل يصل إلى أعلى ما يكون من درجات الحرارة ليشرب هؤلاء منه والعياذ بالله، إذاً: طعامهم الزقوم، وشرابهم الحميم.
قال الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} [الصافات:٦٨]، نسأل الله العفو والعافية، فهو عذاب أليم إذا تخيله الإنسان خاف من رب العالمين سبحانه، وخاف من الوقوع في الذنوب، وهؤلاء في النار كالأنعام وكالبهائم يقادون إلى المرعى إلى شجرة الزقوم ليأكلوا كرهاً، ويقادون إلى الماء فهم: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن:٤٤]، فالنار دركات منها: الجحيم، الهاوية، السعير، الحطمة، فهي دركات في أصلها هذه الشجرة، يأكلون من هذا المكان في النار، ويخرجون منه إلى مكان آخر في النار فيه ماء الحميم، ثم يردون إلى المكان الأول مرة ثانية، فانظر إلى التعبير: {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا} [الصافات:٦٦ - ٦٧]، أي: خلطاً، {مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} [الصافات:٦٧ - ٦٨] أي: يردون مرة ثانية إلى الجحيم والعياذ بالله إلى قعر النار، فهم داخلون خارجون من النار إلى النار، ومن دركة إلى أخرى فيها الصديد، وفيها الغساق والحميم، مكان فيه الزقوم يأكلون ويشربون كرهاً في ذلك، فهم يكرهون ذلك، ولكن يجبرون عليه.