[تفسير قوله تعالى: (وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين)]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشعراء: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ * فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ * فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:١٠ - ٢١].
في هذه الآيات من سورة الشعراء يذكر الله سبحانه وتعالى قصة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقد ساقها في القرآن في مواضع كثيرة، وفي كل موضع يذكر من القصة الشيء الذي يناسب هذه السورة ويناسب هذا الموضع.
فهنا يذكر قصة تكليف الله عز وجل موسى بالرسالة، وأن يتوجه إلى فرعون ليدعوه إلى الله سبحانه وتعالى، فقال عز وجل: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء:١٠]، وهنا لم يوضح لنا أين ناداه، لكن في سورة القصص يذكر الله سبحانه وتعالى أين ناداه، حيث يقول: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص:٢٩] يعني: أن موسى كان عند الطور في جبل سيناء يقال فيه: طور سِيناء وسَيناء وسينين، وهو الجبل المبارك، أو الأرض المباركة، أو المكان المبارك.
{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص:٢٩] أي: كان راجعاً هو وزوجته، {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص:٢٩]، وكأنه كان في وقت برد شديد وفي ليل مظلم والمكان مخيف، فاستأنس من وحشته بنار في مكان بعيد، فتوجه إليها؛ ليأتي منها بقبس من نار، {قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا} [القصص:٢٩] أي: ابقوا في هذا المكان وأنا سأتوجه وحدي إلى هذه النار، قال: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص:٢٩].
كأنه كان تائهاً لا يعرف، فلعله يأتي من عند هذه النار بخبر عن الطريق، أو يأتي بقبس من نار يستنيرون ويستدفئون به؛ {فَلَمَّا أَتَاهَا} [القصص:٣٠] أي: جاء إلى هذا المكان الذي فيه النار، {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ} [القصص:٣٠] أي: من جانب الواد الأيمن، {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} [القصص:٣٠]، فإذا بشجرة فيها نار تضطرم فيها وهي خضراء، فالله عز وجل ناداه لما وصل إليها: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:٣٠].
وقال في سورة الشعراء: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء:١٠]، وهناك في القصص ناداه الله عز وجل: {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} [القصص:٣٠ - ٣١].
يعني: بدأ الابتلاء من الله عز وجل لموسى والاختبار، ثم التثبيت والإخبار أنه رسول رب العالمين عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وكذا حدث مع نبينا صلى الله عليه وسلم، فلم يقل له جبريل مباشرة: أنت رسول، وإنما ألقى في روعه ذلك، ولكن كان الاختبار في البداية والتدريب والتمرين حتى يثبت صلوات الله وسلامه عليه، فهنا موسى ذهب وتوجه وحده وترك أهله خوفاً عليهم، وليكون النداء له وحده ليسمع كلام رب العالمين وحده، فهو الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما توجه إلى ذلك المكان جاء النداء من رب العالمين، ففزع موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فطمأنه ربه وقال: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:١٢ - ١٣]، فهنا وحي من الله، ولكن قبل ذلك ثبته بأن أراه معجزة أمامه؛ ليعلم أن الذي يناديه هو ربه سبحانه، أو مناد من عند ربه سبحانه وليس شيطاناً وليس جاناً يفزعه في هذا المكان، لذلك قال له ربه سبحانه: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [القصص:٣١] أي: ارم العصا التي في يدك، {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} [القصص:٣١] أي: كأنها حية ألقى العصا {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} [القصص:٣١] أي: ولى فاراً ولم ينظر وراءه من شدة الفزع والخوف، {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص:٣١].
فلما أراه آية ومعجزة خاف منها موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فأراد الله أن يطمئنه ويثبته، ولو كانت هذه المعجزة حصلت أمام فرعون للمرة الأولى فسيخاف فرعون وموسى أيضاً، ولكن الله عز وجل أرى موسى هذه الآية في ظلمة الليل في مكان موحش وهو وحده عليه الصلاة والسلام، والعصا تتحول إلى ثعبان أمامه؛ حتى لا يفزع حين يذهب إلى فرعون ليريه هذه الآية.
ثم قال تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [القصص:٣٢] أي: ضع يدك في جيب قميصك، والجيب هو مكان دخول الرأس من القميص، فكان يضع يده في جيب قميصه فيخرجها بيضاء لها شعاع كالشمس في الليل، فيعجب موسى لذلك، فيطمئنه ربه سبحانه وتعالى ويقول له: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} [القصص:٣٢] أي: إذا خفت فضم يدك إلى جناحك إلى جنبك يذهب عنك هذا الخوف، فذهب الخوف عن موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
ثم قال له ربه سبحانه: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} [القصص:٣٢] ليس لك أنت؛ لأنك قد عرفت، ولكن {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص:٣٢] أي: اذهب بهذه الآيات إلى فرعون وقومه.
ففي سورة القصص أطال ذكر القصة، واختصرها هنا في سورة الشعراء.