[سبب نزول قول الله تعالى (قل للذين آمنوا يغفروا الآية)]
وهذه السورة كما ذكرنا سورة مكية، قيل: إلا هذه الآية: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية:١٤].
قيل في سبب نزولها: إنها نزلت في عمر رضي الله عنه في المدينة، وقيل: بل في مكة، حيث إن عمر رضي الله عنه سمع رجلاً من قريش يشتم النبي صلى الله عليه وسلم فهم أن يبطش به رضي الله عنه، فنزل قول الله عز وجل: ((قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ)).
وقيل: بل في المدينة في غزوة بني المصطلق، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم في مكان، وعبد الله بن أبي بن سلول المنافق كان في المكان نفسه وأرسل غلاماً له يستقي له من الماء، فلما وصل إلى مكان الماء تأخر على سيده عبد الله بن أبي بن سلول، فسأله عبد الله بن أبي عن سبب تأخره، فقال: كان هناك على الماء غلام عمر رضي الله عنه أبى أن نسقي حتى يملأ للنبي صلى الله عليه وسلم ويملأ لـ عمر رضي الله عنه، فتغيظ هذا الرجل المنافق وقال: ما هذا إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، يشتم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يعني: جاءوا لنا فقراء من مكة لا يجدون شيئاً، والآن في المدينة يسابقوننا ويسقون قبلنا ويأخذون أشياءنا! فلما قال ذلك ووصل الخبر إلى عمر رضي الله عنه أراد أن يقتل عبد الله بن أبي بن سلول؛ لكونه يشتم النبي صلوات الله وسلامه عليه وكاد يفعل، فأنزل الله عز وجل: ((قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ)) وعلى كونها مكية قيل: هي منسوخة، وعلى كونها مدنية قيل: أيضاً إنها منسوخة، نسختها آية السيف، وذلك حين أمر الله عز وجل بالجهاد، قال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:٥] فأمر الله المؤمنين بجهاد الكافرين، فقالوا: هذه الآية نسخت كل ما كان فيه من موادعة مع الكفار ومن متاركة وتفويت لهم، فقوله تعالى: ((قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا)) يعني: يتركونهم كأنهم لم يسمعوا ما قالوه، وقيل: بل إذا كان يرجى من هؤلاء الإسلام فيتجاوز عنهم ليدعوا إلى الله عز وجل، وهذا المعنى صحيح، ولا ينافيه أن يكون الأمر بعموم ما نزل بعد ذلك، وهو أمر الله عز وجل المبين بأن يقاتلوا المشركين وأن يجاهدوهم في كل مكان.
فقال الله تعالى: ((قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا)) فالإنسان إذا دعا إنساناً قد يكون هذا المدعو يجادل بحق ويجادل بباطل، ولكن يرجى منه خير، فيجادل ويفوت عليه شيء، ويتنزل معه في مقام المناظرة.
كما فعل إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما كان يدعو عباد الكواكب إلى الله سبحانه وتعالى وقال: هذا ربي، ومستحيل أن إبراهيم يشرك بالله ويقول: الكوكب ربي، ولكن مقام المناظرة مع هؤلاء يجعله يقول لهم: هذا ربي بزعمكم أنتم؛ لأنكم تعبدون الكواكب، قال تعالى: {هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:٧٦] أي: لا يصلح أن يكون رباً.
إذاً: هذا المقام مقام مناظرة وليس مقام نظر، فمقام النظر: هو أن الإنسان يتحير ويفكر هل هذا هو الرب أم لا؟ فهو متشكك، هذا مقام النظر، ومستحيل أن يكون إبراهيم في هذا المجال أو هذا المقام، إنما المقام مقام مناظرة، وإبراهيم مستيقن ما يقول، ولكن يجادل الخصم ويقول له: فرضنا جدلاً أن الذي تقوله أنت صحيح، فإبراهيم يقول: هذا ربي بزعمهم {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:٧٦ - ٧٧].
فلما غاب القمر وظهرت لهم الشمس {قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام:٧٨] هذا أكبر شيء تزعمون أنه رب {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:٧٨] أي: الذي تقولونه هذا كله هجس، وكله عبادة فارغة وليست عبادة حقيقية، وأنا بريء من هذا الشرك الذي أنتم تشركونه، فظهرت حقيقة مناظرة إبراهيم لهؤلاء، أنه ما كان يناظر ليصل هو إلى شيء، ولكن يريد أن يوصلهم إلى ما هو فيه من عبادة الله عز وجل.
فإذا كان هناك مؤمن يدعو إلى الله ويدعو إنساناً كافراً لا يتوقع أنه مجرد ما يقول له: قل: لا إله إلا الله، سيقول: لا إله إلا الله، ويدخل في الدين؛ لأن الكفار كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:٥] فقيل للمؤمنين: اصبروا على هؤلاء واتركوهم، واسمعوا منهم وادعوهم إلى الله عز وجل، بل وقال للمؤمنين: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:١٠٨] إذاً: المؤمن يتأدب في دعوته، فإذا جادل ودعا إلى الله لا يصل الأمر إلى أن يشتم آلهة هؤلاء، فقد يشتمونه ويشتمون دينه، إذاً: تأدب أنت حتى يعاملك هو أيضاً بهذه الصورة، فإذا كنت ترجو من إنسان خيراً لتدعوه إلى الله سبحانه وتعالى فاصبر في وقت الدعوة إليه.