[تفسير قوله تعالى: (الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض)]
هذه السورة العظيمة بدأها الله سبحانه وتعالى بحمد نفسه فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ:١] بدأ الله سبحانه وتعالى هذه السورة بالحمد، وليست السورة الوحيدة التي بدأها بذلك، فقد بدأ الفاتحة بحمد نفسه فقال: ((الحمد لله رب العالمين)).
وفي سورة الأنعام قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:١].
وفي سورة الكهف: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:١].
وفي سورة فاطر: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:١] فهذه خمس سور في كتاب الله عز وجل بدأها بحمد نفسه، وكلها نزلت في مكة حين كان الكفار يدعون إلى كتاب الله فلا يستجيبون، ويذكرون بحكم الله سبحانه وأحكام الله، وما في كتابه من آيات ويعظهم النبي صلى الله عليه وسلم فلا يحمدون ربهم ولا يشكرون، فقال: (الحمد لله) فحمد نفسه وهو مستغني عن حمد الخلق.
هذه السورة اسمها سورة سبأ، وتسمى السورة عادة إما بشيء يذكر فيها، أو بما جاء في أولها، أو نحو ذلك.
فسميت بسورة سبأ باعتبار ذكر سبأ فيها، لكن من سبأ هذا؟ جاء في حديث عند الترمذي عن فروة بن مسيك المرادي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: (يا رسول الله، ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم) يقول: إن قومي من بني مراد فيهم المسلمون، وفيهم الكفار فهل يجمع المسلمين ويقاتل بهم الكفار فقوله: (ألا أقاتل من أدبر من قومي) يعني: أعرض عن الإسلام.
وقال: (بمن أقبل منهم) يعني: إلى دين الله عز وجل.
قال: (فأذن لي في قتالهم) أي: وافقه النبي صلى الله عليه وسلم وأذن له في قتال الكفار.
قال: (وأمّرني) أي: جعلني أميراً.
قال: (فلما خرجت من عنده سأل عني: ما فعل الغطيفي؟ فأخبر أني قد سرت) يعني: سار من أجل أن يجمع قومه المؤمنين؛ ليقاتلوا الكفار.
قال الرجل: (فأرسل في أثري فردني فأتيته وهو في نفر من أصحابه فقال: ادع القوم) يعني: قبل أن تبدأ بالقتال ادعهم إلى دين الله سبحانه وتعالى.
قال: (فمن أسلم منهم فاقبل منه، ومن لم يسلم فلا تعجل حتى أحدث إليك) وهذا من رحمة النبي صلوات الله وسلامه عليه ألاَّ تتعجل في القتال، إذ ليس هو الغرض، وإنما القتال حتى يدخل الناس في دين الله سبحانه وتعالى، فالكفار قد يمنعون الناس من دخول دين الله فلا يصلح معهم إلا القتال.
ولكن لعل المناسب لقومك الدعوة بالرفق؛ لذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ادع القوم فمن أسلم منهم فاقبل منه) والذي لم يسلم؟ قال صلى الله عليه وسلم: (فلا تعجل حتى أحدث إليك) قال الرجل: (وأنزل في سبأ ما أنزل) يعني: نزلت سورة سبأ ونزل فيها ما نزل.
وسورة سبأ عند جماهير المفسرين سورة مكية وهو الراجح وإن كان هذا الحديث يدل على نزولها في المدينة؛ لأن الرجل جاء النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع من الهجرة.
لكن الراجح أن الرجل يخبر عن سماعه وليس عن إنزال هذه السورة، يعني: كأنه سمعها في هذا الوقت من النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (فقال رجل: يا رسول الله وما سبأ؟) أي: هل سبأ أرض أم امرأة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس بأرض ولا مرأة ولكنه رجل ولد له عشرة من العرب) يعني: كان أبا عشر قبائل من العرب قال: (فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة) تيامن: اتجه يميناً، وتشاءم: اتجه شمالاً، يعني: ذهب إلى أرض اليمن ستة، وإلى أرض الشام أربعة من أولاد سبأ، قال: (فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وغسان وعاملة) يعني: أربع قبائل من القبائل الموجودة في بلاد الشام وهي لخم وغسان وجذام وعاملة فهؤلاء من أولاد سبأ، فيكون أبا لعشر قبائل من العرب.
قال: (وأما الذين تيامنوا فالأزد والأشعريون وحمير وكنده ومذحج وأنمار) فهؤلاء الذين ذهبوا إلى بلاد اليمن فهو أبوهم.
فقال الرجل: (وما أنمار؟ قال: الذين منهم خثعم وبجيلة) فبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن سبأ ليست أرضاً ولا امرأةً اسمها سبأ، ولكنه رجل أبو عشر قبائل من العرب جعل الله عز وجل في أولاده آية وعبرة كما سيأتي.
وهذه السورة كعادة السور المكية فيها ذكر قصص القرآن للعظة والعبرة.
فذكر لنا كيف أنه مكن لداود عليه الصلاة والسلام وآتى داود من عنده علماً، وكيف سخر لسليمان عليه السلام الريح، وكيف مات سليمان وقد سخر الله له الجن، وزعمت الجن أنها تعلم الغيب وكذبوا في ذلك، فلما مات سليمان لم يعرفوا موته، وظلوا مسخرين خائفين من سليمان وقد مات عليه الصلاة والسلام، وكان واقفاً على عصاه فترة طويلة وهم لا يعلمون موته.
ثم أرسل الله عز وجل الأرضة تأكل عصاه فسقط سليمان فعلموا أنه كان ميتاً وتبين للجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.
فهذه حكمة من الله عز وجل أن يري عباده من آياته أنه يحيي من يشاء، ويميت من يشاء، وهو علام الغيوب سبحانه كما ذكر لنا في أول هذه السورة.
كذلك ذكر قصة سبأ وكيف أغناهم الله وأعطاهم.
وانظر إلى سليمان عليه الصلاة والسلام، وإلى سبأ وقصته: سليمان آتاه الله عز وجل العلم، وآتاه الملك والنبوة؛ فحمد الله سبحانه وتعالى وسخر له ربه ما يشاء فما ازداد إلا حمداً لله وشكراً وتواضعاً له سبحانه.
أما قوم سبأ فأعطاهم الله عز وجل الجنات وأعطاهم العيون والبساتين والثمار حتى إنهم ليخرجون من أرضهم مسافرين إلى أرض أخرى، فيمر المسافر بقرية بعد أخرى فيجد عندهم طعامه وشرابه والدلالة على الطريق، وهذا من فضل الله عز وجل العظيم عليهم.
فسليمان حمد الله سبحانه وأمر العباد بطاعة ربه، وهؤلاء كفروا وجحدوا نعمة الله ووصل بهم الأمر إلى البطر والغرور حتى قالوا: ربنا باعد بين أسفارنا، يعني نحن نريد سفراً نتعب فيه ونشقى فيه لكي نحس أنا قد سافرنا، فلما عصوا ربهم سبحانه وتعالى أرسل عليهم سيل العرم فدمر هذا كله، ولم يبق لهم من الجنات والبساتين شيئاً، وأبدلهم بالجنات أشجاراً ذوات أكل خمط مر وأثل وشيء من سدر قليل، قال سبحانه: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:١٧] فلما كفروا ربهم سبحانه استحقوا ذلك وهي إشارة إلى هؤلاء الكفار إن أسلمتم فاقتديتم بسليمان وبنبينا صلوات الله وسلامه عليه كان لكم الخير من الله سبحانه وتعالى، وإذا أعرضتم فكنتم كقوم سبأ كانت عليكم العقوبة، ولن تعجزوا الله سبحانه وتعالى.