[تفسير قوله تعالى: (أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا)]
قال الله سبحانه وتعالى: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:٥٠] أي: أن هذا الذي يبعد عن حكم الله وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يظن أن الله عز وجل سيظلمه؟ حاشا لله عز وجل.
وهل يظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيظلمه؟ هذا مستحيل أيضاً، فيقول سبحانه: ((أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)) أي: هل في قلوبهم النفاق والكفر.
ثم قال: ((أَمِ ارْتَابُوا)) أي: صاروا متشككين في شرع رب العالمين سبحانه، ومتشككين في النبي صلى الله عليه وسلم أنه لن يحكم بينهم بالعدل، فهذا كله من النفاق، وهذا كفر بالله عز وجل، فكون في قلوبهم الشك والريبة من النبي صلى الله عليه وسلم هذا كفر.
ثم قال: ((أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ)) أي: إن ظنوا أن الله سبحانه وتعالى سيظلمهم فقد كفروا بذلك، فالله يعجب من أمرهم: فإما أن يكونوا مؤمنين فمستحيل أن يظنوا هذه الظنون، وإلا فهم على كفرهم فالله يفضحهم.
وقال سبحانه: ((أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) أي: يميل ويجور ويظلم.
وقوله: {بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:٥٠] أي: أن الله لا يظلم أحداً شيئاً سبحانه وتعالى، والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه.
فهؤلاء الذين يخافون أن يظلمهم الله كيف يظلمهم وهو يملك كل شيء؟! وقال سبحانه: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).
قال أهل العلم: إن القاضي الذي يحكم بين المسلمين بعضهم مع بعض لا بد وأن يكون مسلماً، فلا يجوز أن يكون الكافر قاضياً ولا والياً على المسلمين ويحكم بينهم، وكيف سيحكم بشرع الله سبحانه وهو كافر به؟! وقال سبحانه: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:١٤١].
فإذا كانت هناك خصومة بين مسلم وبين كافر فالذي يحكم بينهما هو القاضي المسلم، وأما إذا كانت الخصومة بين ذمي وذمي وبين كافر وكافر، فإذا تحاكما للمسلمين جاز أن يحكموا بينهما، وجاز أن يعرضوا عنهما إذا علموا أنهما مبطلان، وإذا تحاكما إلى غير المسلمين فشأنهما.
فهنا وجوب الحكم إذا تخاصم المسلمون فيما بينهم إلى القاضي المسلم، وأن الواجب عليهم أن يحكِّموا بينهم من يصلح للقضاء وللحكم، ومن يصلح لفصل الخصومة من المسلمين، وليس من الكافرين ولا من المنافقين.
قال الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:٥١].
قوله: ((إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ)) (قول) خبر كان مقدم، واسمها (أن يقولوا) وهو المصدر المنسبك من أن والفعل، كأنه يقول: إنما كان قولَ المؤمنين قولهُم، أي: أنهم يقولون: سمعنا وأطعنا.
فالمعنى: أن السمع والطاعة هو قول المؤمنين حين يدعون إلى الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم للحكم بينهم.
وقوله: ((إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ)) (إنما) أداة قصر وحصر، والمعنى: أن هذا القول فقط هو الذي يصدر عن المؤمن، ولا يصدر عنه قول غير هذا القول أبداً، فالمؤمن إذا دعي إلى الله ورسوله: تعال نتحاكم لشرع الله، قال: سمعنا وأطعنا، فإن كان الحق له أخذه، وإن كان الحق عليه أعطى الحق لصاحبه.
ثم قال: ((إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ)) ((لِيَحْكُمَ)) هذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي جعفر: ((لِيُحْكَمَ)) بينهم، أي: ليُحْكَمَ بينهم بشرع رب العالمين.
وقوله: ((أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)) أي: ننفذ أمر الله عز وجل ونطيعه سبحانه وتعالى بما يحكم فينا النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: ((وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) فقضى الله عز وجل بأن الذين يقولون ذلك إذا دعوا ليحكم بينهم رب العالمين لكتابه وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم أنهم الناجون يوم القيامة، والناجحون النجاح الأبدي، وأهل النعيم المقيم، وأهل الجنة.
فالواجب على كل إنسان مؤمن إذا حدث بينه وبين غيره خصومة أن يتحاكما، إلى قاض مسلم؛ ليحكم بينهما بشرع رب العالمين سبحانه.
فالمؤمن عليه أن يحكِّم شرع الله، وإذا كان يعلم أنه ليس له حق على الآخر ولكن في يده أوراق، أو في يده شيكات فليس له أن يقول: سأرفع عليك قضية؛ لأن بيدي أوراقاً بهذا الشيء؛ لأن المؤمن يعرف شرع رب العالمين سبحانه، ويخاف من عقوبة رب العالمين، والمؤمن لا يكذب ولا يغش ولا يخدع ولا يخون ولا يزور، وإنما يقول بالحق، قال تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء:١٣٥].
فالإنسان المؤمن يكون قائماً بالعدل، وشهيداً ولو على نفسه، أو على والديه أو على أقاربه، فيشهد بالحق ولا يكذب أبداً.
وربنا يحذرنا من أكل أموال الناس بالباطل حيث يقول سبحانه: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:١٨٨]، فالإنسان المؤمن يتحاكم لشرع رب العالمين سبحانه وتعالى.
وأيضاً الذي يحكم بين الناس لا بد وأن يعرف شرع رب العالمين، ولا بد أن يكون دارساً لشرع رب العالمين، وخاصة مسائل القضاء التي تكلم فيها الفقهاء، وأما إذا كان شيخ حارة، أو حافظاً للقرآن وهو لا يعرف شيئاً من أحكام رب العالمين سبحانه فهنا لا يلزم أن يذهب إلى هذا الإنسان، وإنما الواجب أن يذهب إلى من يعرف الأحكام الشرعية، وكم من إنسان يجهل الأحكام الشرعية ويقضي بالهوى والإثم، فتجد بعض هؤلاء إذا سأله إنسان عن شيء أجاب بما يعرفه هو ولم يرجع إلى أهل العلم في ذلك، لذلك فاحذر أن تحكم بين الناس وأنت جاهل، وأنت لا تعرف الحكومة في هذه المسألة، ولكن قبل أن تحكم اقرأ واطلع واعرف الحكم الشرعي في الشيء قبل أن تقضي بشيء فيوبقك يوم القيامة، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (أن القضاة ثلاثة: رجل عرف الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق ولم يقض به فهو في النار، ورجل قضى على جهل فهو في النار).
لذلك فالمؤمن إذا دعي إلى كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم قال: سمعنا وأطعنا، ولا يتحاكم إلى غير شرع الله سبحانه، فلا يتحاكم إلى إنسان يقبل الرشوة، أو إنسان لا يعرف شرع الله سبحانه، أو يحكم بالهوى ويحكم بالعرف، فبعض الناس يحكمون في المسألة بالقضاء العرفي كما يزعمون، فتجدهم يقولون لمن تحاكم إليهم: سنحكم عليك أن تذبح جملاً، أو تذبح خروفاً، أو عليك دية أو ديتين أو ثلاث ديات، في أشياء لم يحكم الله عز وجل فيها بذلك، فهذا الذي يحكم بهذا كأنه يحكم مع الله سبحانه وتعالى، وكأنه يشرع شيئاً لم يقله رب العالمين ولا حكم به النبي صلوات الله وسلامه عليه.
لذلك فالذي يقضي بين الناس أو يفصل في الخصومات لا بد وأن يكون على علم بشرع رب العالمين سبحانه.