فالإنسان المؤمن التقي الذي لا يبتغي العلو ولا الإفساد في الأرض، ولا البغي على الخلق ولا الطغيان هو الذي لا يظلم أحداً، فإن هذا الإنسان المؤمن له عند الله عز وجل هذه الدار الآخرة، قال تعالى:(لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، إذاً: هذه من أول صفاتهم: الإيمان، أما الكافر فليس له عند الله شيء، فإذا مات الإنسان الكافر فقد أعطاه الله عز وجل في الدنيا ما شاء سبحانه، فإذا جاء يوم القيامة وقال: لقد عملت صالحاً، كنت أصل الرحم، كنت أتصدق، كنت أفعل كذا، يقال له: لا ينفعك هذا كله؛ لأنك لم تكن مؤمناً بالله سبحانه وتعالى.
والذي يعمل الخير ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى سوف يأخذ أجره من الله، والذي يعمل الخير ابتغاء مرضاة الناس سيأخذ ثوابه من الناس، فسوف يمدحونه، ويشكرونه، وسيأخذ شهرة في الناس، فقد أخذ أجره في الدنيا؛ لأنه لم يبتغ به وجه الله سبحانه وتعالى.
لذلك الكافر فعل هذا في الدنيا حتى يقال: إن هذا إنسان جواد، ويقال عنه: جواد حتى يشتهر، ويأخذ عند الناس منصباً كبيراً، ويكون رأساً فيه، والناس يمدحونه ويحبونه ويثنون عليه، لكن الله سبحانه لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً ولوجهه خالصاً، ولذلك فإن الكافر يطلب العمل الحسن الذي عمله، ويظن أنه يؤجر عليه يوم القيامة، فيقول الله عز وجل:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}[الفرقان:٢٣]، أي: يصير كالهبأة التي تراها في الغبار وذرات الغبار، وكذلك عمله صار هَبَاءً مَنْثُورًا؛ لأنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي، رب ارحمني، ولذلك جبير بن مطعم بن عدي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن عمل أبيه مطعم، وجبير كان مسلماً وأبوه كان رجلاً كافراً، وكانت له خصال حميدة وكثيرة جداً مع الناس، من إطعام الفقراء، واسمه مطعم؛ لأنه كان يطعم الناس، فيسأل جبير النبي صلى الله عليه وسلم:(إن أبي كان يفعل من البر هل ينفعه ذلك عند الله؟ قال: إنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم).
فلم يكن يؤمن أن هناك بعثاً، بل كان يعمل هذا للدنيا فقط، وأخذ ثوابه في الدنيا من ثناء الناس عليه، ومن كلامهم الطيب عنه، ومن شكرهم له، أما عند الله فلا ينتفع بعمل تطلب به الناس وتطلب به الله في نفس الوقت؛ لأن العمل لابد أن تطلب به الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له.
إن أصل الأصول هو توحيد الله سبحانه وتعالى، والإيمان بما جاء من عند الله سبحانه والتصديق به، فإذا صدق الإنسان بذلك نفعه هذا الذي فعله، وإذا لم يكن مصدقاً لم ينتفع بشيء، قال الله عز وجل:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}[الكهف:١٠٣ - ١٠٤]، فقوله تعالى:(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ)، أي: هل نخبركم عن هؤلاء؟ قال تعالى:(بِالأَخْسَرِينَ)، أي: أخسر الخلق (أَعْمَالًا)، قال تعالى:(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)، أي: تاهوا وضاعوا، اتبعوا شيئاً خلاف ما قاله الله سبحانه وتعالى، فكان سعيهم لغير وجه الله سبحانه، فضل وضاع، فلما جاءوا يوم القيامة لم يجدوا شيئاً عند الله سبحانه وتعالى، لأنهم (ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، ومصيبتهم أنهم (يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا).
والإنسان إذا كان عاصياً نرجو أن يتوب هذا العاصي، ويعلم أنه عاص لله سبحانه، فإذا كان لا يعرف أنه يعصي فكيف يتوب؟ وإذا كان لا يعرف الحق، أو ترك الحق وراءه وضل وسار على الضلال، فكيف يقبل الله منه عملاً صالحاً يعمله؟ فالمسافر إذا أخبرته أن هذا المكان خاطئ، وعرف أن المكان خطأ، فسار فيه فلعله يضيع ولعله يرجع، ولكن الإنسان إذا عرف طريق الصواب، ومشى في الطريق الخطأ وهو يظن أنه على صواب حتى ضاع في النهاية، فمستحيل أن يرجع هذا الإنسان وهو يظن أنه على صواب، كذلك هؤلاء قال تعالى:{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ}[الكهف:١٠٤]، أي: خاب وخسر سعيهم في الحياة الدنيا، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}[الكهف:١٠٤ - ١٠٥] حبطت أعمالهم أي: خاب سعيهم وشقوا في الدنيا وفي الآخرة، ففي الدنيا لم يعرفوا ربهم ولم يصدقوا بما جاء من عند ربهم، فعملوا أعمالاً ابتغاء وجه الناس، وعملوا أعمالاً يظنون أنها تخلدهم ذكراناً بعد موتهم، فلما ماتوا ولقوا ربهم سبحانه لم يجدوا أعمالهم، فضاعت منهم هذه الأعمال التي طلبوا بها الناس في الدنيا.
لذلك على المؤمن أن يصدق بالله سبحانه، ويعمل لله سبحانه، ويتوكل على الله سبحانه.