[تفسير قوله تعالى:(فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل)]
ختم الله سبحانه هذه السورة الكريمة بقوله للنبي صلى الله عليه وسلم:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ}[الأحقاف:٣٥] أي: فاصبر وتأس بالسابقين من قبلك من الأنبياء، فهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم -وقد صبر- وللمؤمنين بالتبع، فكأنه سبحانه يقول لهم: اصبروا على ما ينالكم من الكفار، فلعل الله عز وجل أن يأتيكم بالفرج من عنده، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}[الأحقاف:٣٥]، والعزم هو الحزم والعزيمة والقوة في دين الله سبحانه وتعالى، وكل الرسل من أولي العزم، ولكن بعضهم اشتد الابتلاء عليه واشتد صبره، فأمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهؤلاء، قال تعالى:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}[الأنعام:٩٠] فأمره أن يقتدي بهدي السابقين عليهم الصلاة والسلام خاصة من ابتلي منهم فصبر، وللمفسرين كلام كثير في تعيين أولي العزم.
وكل من ابتلاه الله عز وجل وصبر على هذا الابتلاء فهو من أولي العزم، ولا يمنع أن يكون أعظمهم خمسة أنبياء، وهم: نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم السلام، هؤلاء من أولي العزم من الرسل، لكن ليسوا وحدهم فقط، فهناك غيرهم من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام صبروا صبراً عظيماً على أمر الله سبحانه، فهذا نوح صبر ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوا قومه وهم لا يستجيبون له، وما آمن منهم إلا قليل، وهذا هود يدعو قومه، وهذا صالح يدعو قومه ولا يستجيبون له، وهذا شعيب يسفهه قومه ويأبون أن يستجيبوا له عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهذا أيوب يبتليه الله سبحانه وتعالى فيمكث في ذلك البلاء ثمانية عشر عاماً وهو صابر، ولم يطلب كشف البلاء عنه إلا في النهاية حين آذاه أصدقاؤه بكلام سيء، وباتهام كاذب.
فالغرض أن الله ذكر الأنبياء السابقين وما فيهم من عزيمة وصبر على أمر الله، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم في صبرهم عليهم الصلاة والسلام.
وقال سبحانه {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ}[الأحقاف:٣٥] أي: لا تستعجل فتدعو عليهم بأن يمحقهم الله ويبيدهم، ولكن اصبر عليهم، فكان كذلك صلوات الله وسلامه عليه.
ثم قال تعالى:{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ}[الأحقاف:٣٥] أي: كأن هؤلاء حين يتخيلون ما هم فيه من طول العزاء والشقاء والعناء يوم القيامة {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ}[الأحقاف:٣٥]، وكأن هذه الدنيا لعبة، فالإنسان حين يتفكر في عمره وكم مضى منه: عشر سنين، أو عشرون سنة، أو خمسون سنة، أو أكثر فإنه يحس أنه لا شيء، ولو عمِّر كما عمِّر نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فإنه عندما يقارن يوم القيامة بما عاشه في الدنيا يشعر وكأنه لم يعش ساعة، ولذلك عندما يسألون:{كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ}[المؤمنون:١١٢ - ١١٣] قال الله سبحانه {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ} أي: هذا بلاغ، فقد بلغناكم وأنذرناكم، والبلاغ بمعنى الكفاية أيضاً، كأنه يقول: هذا فيه كفاية لكم في إنذاركم، ولو أنكم تعقلون ذلك لاكتفيتم به، فعملتم ثم خفتم من المرجع إلى الله سبحانه وتعالى.
ثم قال تعالى:((فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ)) أي: فلا يهلك على الله إلا هالك، وهو الإنسان الذي فسق وخرج من عباءة الإيمان، ودخل في الكفر والشرك بالله سبحانه، فلا يهلك إلا الفاسقون.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.