تفسير قوله تعالى:(ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فسلكه ينابيع في الأرض)
يقول الله للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بالتبع {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ}[الزمر:٢١] هذا مثال مما يراه الناس أمامهم ليعرفوا به ضآلة هذه الدنيا، وقصر عمرها، فالمطر الذي ينزل من السماء ينمو به الزرع، وسرعان ما يصفر هذا الزرع ثم يصير حطاماً وينتهي أمره، وأنت في كل يوم ترى النبات يحيه الله سبحانه ثم يمر عليه الوقت فإذا به يموت بعد ذلك، فهذه الدنيا مهما ازداد أمرها فمصيرها في النهاية إلى النقصان والزوال، والزينة التي عليها التي تعجبك الآن هي التي تكرهها أنت بعد ذلك، فإن النبات حين ينمو فيراه الإنسان أمامه أخضر وأحمر وأصفر يفرح ببهجة هذا النبات ومنظره، فإذا يبس وصار هشيماً فإن الإنسان يتضايق منه ويجمعه ويرميه في الحضرة! وهذا هو حال الدنيا، الذي تسر به الآن وتفرح به هو الذي تتأذى منه بعد ذلك، وإذا كانت الدنيا على هذا الحال فعلى الإنسان أن يحب ربه سبحانه وتعالى، وأن يطمح فيما عند الله من النعيم المقيم وليس في هذه الأشياء الفانية.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} والكل يرى ذلك {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ}[الزمر:٢١] يبين لنا قدرته سبحانه وتعالى في هذه الآية، فإن المطر الذي نزل من السماء لو اجتمعتم أنتم ومن في الأرض جميعاً على تخزين هذا الماء ما استطعتم ذلك، لكن الذي يقدر على ذلك هو الله سبحانه وتعالى، ولو احتبس في مكان واحد لأنتن وتعفن، ولكن الله الكريم سبحانه يجريه أنهاراً ويجعله عيوناً ويجعل منه مياهاً جوفية في باطن الأرض، وهذا شي عجيب جداً! فالماء يحتفظ بما هو عليه من خصال وهو أنه طاهر ومطهر وأنه نقي وطيب حتى يتدخل الإنسان لإفساده، لكن الله سبحانه وتعالى الذي أنزل المطر من السماء حفظ هذا المطر، فإنه حين ينزل من السماء يجري أنهاراً وبتغيره من مكان لآخر يحتفظ بخصائصه ويحتفظ بصفاته، ولو أنه وقف في مكان لأنتن وتعفن وأصابه ما على الأرض من قاذروات، لكن الله سبحانه يحفظه ويسلكه ينابيع في الأرض، فمنه ما ينزل إلى باطن الأرض حيث لا جراثيم ولا عفونة ولا شيء في المياه الجوفية فيكون نقياً إلى أن يتدخل الإنسان بسفاهته فيعمل الآبار ويصرف الصرف الصحي على المياه الجوفية فيلوث المياه الجوفية التي جعلها الله عز وجل في مكان لا تصل إليه المكروبات، فيفسده الإنسان بسوء تصرفه وسوء صنيعه، ويجريه أنهاراً جميلة فيها الماء الطيب الرقراق الصافي حتى يفسده الإنسان بالمصانع والصرف الصحي على الأنهار، ويجعله بحاراً تتبخر منها المياه التي تنزل بعد ذلك صافية حتى يفسدها الإنسان فيصرف عليها مجاريه وصرفه الصحي، فيتأذى الإنسان من سوء صنيعه وعدم تفكيره وعدم إحسانه في ذلك، وإلا فإن الله سبحانه أنزل الماء صافياً طيباً طاهراً مطهراً فهو الطهور الذي نزل من عند الله ليطهر به عباده.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ} سلكه أي: أدخله، وكأن المرور الرقيق السريع يسمى سلك، تقول: سلكت الخرزة في السلك إذا أدخلت السلك داخل خرم الخرز، كذلك الماء يسلكه الله سبحانه وتعالى في الأرض وينزل حتى يدخل في العيون وفي الآبار وأنت لا تشعر بذلك، وهو ينزل ويسلكه الله سبحانه وتعالى في داخلها ثم تنبع الينابيع والعيون من الأرض ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه، هذا أحمر وهذا أخضر وهذا أصفر وهذا كذا، ويكون مختلف الأصناف، ثم الزرع يهيج فتراه مصفراً، هذا الزرع الذي خرج ونما وأعجبك يهيجه أي ينميه أقصى النمو ثم بعد ذلك يصير حطاماً يابساً، فبعد أن كان أخضر يانعاً صار هشيماً! {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ}[الزمر:٢١] أي لأصحاب القلوب وأصحاب الفطر أصحاب العقول ليتفكروا أنه مهما ازدهرت الدنيا وتزينت فإنها ترجع بعد ذلك إلى ما كانت عليه كهذا النبات، فلا تغتر بهذه مهما جاءتك الدنيا.
فالإنسان يكون في الدنيا في عدة مراحل منها مرحلة الشباب والحيوية والقوة فإذا وصل فيها إلى نهايتها بدأ في النزول حتى يصل إلى الصفر ويرجع إلى الأرض التي خلق منها مرة أخرى، فالإنسان مهما علا سينزل ولابد، فليكن هذا النزول والعودة إلى الله سبحانه نزولاً حميداً وعوداً حميداً إلى الله سبحانه وتعالى، فلا تغتر بشبابك فإنها تأتي الكهولة والشيخوخة بعد ذلك، ولا تغتر بمالك فإنك ترجع إلى ربك بغير مال ويأخذه غيرك من أولادك أو من الناس، ولا تغتر بصحتك فإنه يأتي عليك المرض الذي يمنعك مما كنت تقدر عليه، ولا تغتر بالدنيا فإنها تزول من أصحابها، فليكن اعتماد الإنسان وثقته على فضل الله، وعلى كرم الله، فيعبد ربه ويعلم أنه لن يدوم في هذه الدنيا، فينمو ثم يصير حطاماً، فترجع إلى ربك سبحانه ليجازيك على إحسانك بهذه الغرف العظيمة التي عنده، وعلى إساءتك إما بالعفو وإما بالمؤاخذة.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.