للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[ذكر ما جاء من إرسال الله لموسى وهارون إلى فرعون وقومه]

يذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما بعدها أن موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام وجهه ربه وأمره أن يذهب إلى فرعون هو وأخوه هارون، فيدعوانه إلى رب العالمين، وإلى عبادة الله وحده لا شريك له، قال الله عز وجل لموسى وهارون: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:١٦] يعني: إنا ذو رسالة من عند رب العالمين سبحانه وتعالى.

وهذه الرسالة نأمرك فيها بتوحيد الله سبحانه، وبعبادته، وأن ترسل معنا بني إسرائيل، فما كان جواب فرعون إلا أن قال: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء:١٨] يعني: أتيت تطلب منا هذا الآن ونحن ربيناك، ولنا عليك نعمة في يوم من الأيام، وقوله تعالى: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ} [الشعراء:١٩] يعني: هذه الفعلة الشنيعة من قتلك القبطي في مصر؛ فعلتها وأنت من الكافرين لنعمتنا عليك، ولتربيتنا لك، فقد قتلت رجلاً من جنودنا.

قال الله تعالى: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:٢٠] يعني: وأنا لا أعرف، فقد أخطأت ولم أقصد أن أقتله، ولم أكن رسولاً بعد ولا نبي، وكنت قد ضللت وما قصدت ذلك، فقد أردت شيئاً فكان غير هذا الشيء.

فموسى أراد أن يضرب هذا الرجل فكانت الضربة فيها مقتل هذا الإنسان، قال موسى عليه الصلاة والسلام: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:٢١]، إذاً: فقد كنت من الضالين عن أمر هذه الرسالة، وعن الحكم الشرعي في ذلك، ففررت منكم.

فالله عز وجل وهب لي بعد ذلك حكماً وجعلني رسولاً من رسله، {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:٢١].

قال تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:٢٢] يعني: أنت تمن علي بالتربية، وهل هذه نعمة أن مننت علي وعبدت باقي أهلي وجعلتهم عبيداً عندك؟! {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:٢٢]، فتمن علي أن ربيتني، وما ربيتني إلا لما ألقتني أمي في البحر بسببك أنت، فقد كنت تقتل جميع الأطفال من بني إسرائيل من الذكور، فاضطرت أمي أن تلقيني في اليم بسببك أنت، فكنت عندك في البيت بسببك أنت، ولو تركتني لرباني أبي وأمي وما احتجت إليك في شيء، فهل هذه نعمة أن مننت علي بهذا الشيء؟! فقد تركتني حياً وقتلت غيري من بني إسرائيل، فأي نعمة في ذلك؟! فقال فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:٢٣]؟ هذا السؤال من فرعون كأنه يستفهم فيه عن الأجناس فيقول: وما هذا الشيء؟ وهذا مثل فعل بعض أهل الجاهلية الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه: من أي شيء ربك أمن در أم ياقوت أم ذهب أم فضة؟ والأجناس خلقها الله عز وجل فهي مخلوقة، والله عز وجل تعالى وتنزه عن مشابهة خلق من خلقه سبحانه وتعالى.

فقال فرعون: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:٢٣] يعني: هل هو بشر مثلنا؟ أم هو شيء آخر من حجارة أم من ذهب؟ ما هو هذا الجنس الذي تكلمنا عنه؟ فقال موسى مجيباً عليه: {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:٢٤]، والجواب من موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام جواب رزين وحكيم، ففرعون يسأل عن شيء على وجه التهكم، فهو الذي ادعى أمام قومه الألوهية، قال: {فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٣ - ٢٤]، فلم يقل: أنا إلهكم فقط؛ بل قال: أنا ربكم أيضاً، فالإله هو الذي يستحق العبادة، ففرعون لم يقل: اعبدوني فقط، بل قال أيضاً: واعلموا أنني أنا صانع الأشياء، وأنا الرب، وأنا الذي أفعل ما أشاء.

والربوبية مقتضاها: الخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، والنفع، والضر، والرفع، والوضع، فالله سبحانه وتعالى يخلق ويرزق، فإذا بفرعون لعنة الله عليه وعلى أمثاله يدعي الربوبية مع الألوهية، ويصل استخفافه بقومه إلى أن يقول لهم: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:٥١].

ويسأل فرعون موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام ويقول: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:٢٣]، فقال موسى مجيباً عليه: {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:٢٤].

فقوله تعالى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ} [الشعراء:٢٤] يعني: الذي خلق هذه السموات التي لا تملك أنت أن تصنع مثلها ولا أدنى منها، ورب الأرض التي لم تخلق أنت شيئاً فيها، وأنت تزعم للناس أنك ملك مصر، وأن هذه الأنهار تجري من تحتك.

وقوله تعالى: {وَمَا بَيْنَهُمَا} [الشعراء:٢٤] أي: ما بين السموات والأرض، فخالق هذا كله هو الله سبحانه وتعالى.

وقوله تعالى: {إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:٢٤] أي: إن كان عندكم يقين ولم يكن في قلوبكم شك، إذ أن الله هو الذي فطر هذا كله وأبدعه وأوجده، ولا تقدرون على أن تفعلوا شيئاً من ذلك، فهذا هو الرب العظيم الذي يستحق العبادة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>