[تفسير قوله تعالى: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين وأكثرهم كاذبون)]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في آخر سورة الشعراء: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:١٢٢١ - ٢٢٧].
في ختام هذه السورة الكريمة سورة الشعراء يخبر ربنا سبحانه وتعالى أن الشياطين تنزل على أهلها وأصحابها وأوليائها، وكان الكفار يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم أن شيطانه يأتيه بهذا الوحي من السماء، فقال ربنا مجيباً لهؤلاء الكذابين: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ} [الشعراء:٢٢١]، و (تنزل) مدغمة وأصلها تتنزل الشياطين، أي: أن الشياطين تطير في الهواء وتنزل على أصحابها وأوليائها.
{تَنَزَّلُ} [الشعراء:٢٢٢] أي: تتنزل: {عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:٢٢٢] أي: على الكذابين، والأفاك هو الإنسان الكثير الكذب، فهم يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق لا يكذب، وقد شهد الله عز وجل عليهم بذلك فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:٣٣] يعني: أنهم لا يدعون أنك تكذب، فهم كانوا يلقبون النبي صلى الله عليه وسلم بالصادق الأمين عليه الصلاة والسلام، فلا يجتمع أن يكون صادقاً وأميناً ثم تنزل عليه الشياطين، وهذا لا يكون حتى عندهم، ولكنهم يجحدون بآيات الله رب العالمين، فربنا يطمئن النبي صلى الله عليه وسلم أنك لست كذاباً، وهم لا يعتقدون أنك كذاب، بل هم يجحدون -والجحد: إخفاء الحقيقة مع اليقين والعلم بها- آيات الله، مع أنهم يعرفون أنه الحق من ربهم سبحانه، ولكن ينكرون ذلك مع أن قلوبهم متيقنة أن هذا الحق من عند رب العالمين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صادق، ومع ذلك يكذبون ويقولون: كذاب، ويقولون: مجنون، ويقولون: ساحر، فربنا يقول لهم: لا، الأولى أن تعرفوا من هم هؤلاء الذين تتنزل عليهم الشياطين، فليس محمد صلى الله عليه وسلم ممن تنزل عليه الشياطين، وإنما تتنزل الشياطين على شعرائكم الكذابين، فكان كل شاعر منهم يزعم أن له شيطاناً يأتيه بالسحر، فالشياطين تنزل على كهنتهم وكذابيهم.
قال الله تعالى: {تَنَزَّلُ} [الشعراء:٢٢٢] أي: هذه الشياطين، {عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:٢٢٢] أي: على كل كذاب، بل من كان فاحش الكذب، فهؤلاء هم الذين تواليهم الشياطين، {أَثِيمٍ} [الشعراء:٢٢٢] أي: كثير الإثم، يفعل الآثام والذنوب.
{يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء:٢٢٣] يعني الشياطين تلقي السمع إلى أخبار السماء وتنزل بهذه الأخبار -إذا شاء الله- إلى الأرض، فتخبر بها الكهنة والعرافين ونحوهم، فيخبرون بما أخبروا به.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشيطانين يركب بعضهم بعضاً حتى يصلوا إلى السماء فيسترقوا السمع، ويشاء الله عز وجل فتنة عباده بأن تتحدث الملائكة بخبر من خبر السماء، فتخطفه الشياطين وتنزل به إلى الأرض، فيرمى الشيطان بالشهاب، فقد يدركه قبل أن ينزل بهذا الخبر، وقد يدركه بعد أن ينزل بهذا الخبر، فيصل الخبر إلى الكاهن في الأرض، والشيطان يقرقره في أذن الكاهن، والكاهن يخبر الناس بهذا الخبر ويكذب مائة كذبة مع ما أخبره الشيطان به، وعندما يتحقق هذا الخبر الصدق يصدق الناس الكهان، ويقولون: صدق في اليوم الفلاني، فيصدقون باقي كلامه الكذب.
وقد حذرنا ربنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم من تصديق الكهان وقال لنا: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)، فلا يجوز لأحد أن يأتي كاهناً أو عرافاً ليسمع منه، أو ليسأله عن شيء.
والكاهن هو الذي يتكهن للناس، فيقول: سيحصل كذا، وفي آخر السنة هذه سيكون كذا، وفي أول السنة سيكون كذا، ويكذب على الناس بأكاذيب، كما ترى في الجرائد من يقول: العرافون يقولون: كذا وكذا، وصاحب علم النجوم يقول: هذه السنة سيحصل كوارث وكذا وكذا، فهذا من الكهانة التي حرمها ربنا سبحانه، ومن صدق ذلك فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
والعراف مثل الكاهن، ولكنه يستدل ببعض الأشياء على أشياء مغيبة، فيقول لهم: عند فلان كذا، وعند فلان كذا، فتخبره الشياطين عن ذلك، وغاية الشيطان الوقيعة بين الناس، فالشيطان يخبره أن فلاناً هو الذي سرق، فتتقاطع الأرحام بفعل ذلك الكاهن والعراف.