[فضل الذكر]
ثم قال تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:٤٥]، هذا هو الأمر الثالث، وإن كان على غير صيغة الأمر لكن في مواطن أخرى أمر الله عز وجل به ومن ذلك قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:١٥٢].
والمعنى: إذا كان الله أمر بالتلاوة، وأمر بالصلاة، وبين أن التلاوة تؤدي بك إلى أن تبلغ هذه الرسالة العظيمة، وأن فيها التذكر، والموعظة، وأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فأعظم من ذلك المداومة على ذكر الله سبحانه وتعالى، كأنه يقول: واذكر الله سبحانه وتعالى فإنه أعظم.
فالإنسان يذكر ربه في كل أحواله، ومن ضمن ذلك أنه يذكره في صلاته، فكأن الذكر هنا أعظم؛ لأنه سيكون في الصلاة وفي غير الصلاة.
فلا يظن أن قوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:٤٥] معناه: أن ذكر الله في غير الصلاة أعظم من ذكر الله في الصلاة، فلم يقل ذلك إنما أطلق ذكر الله في كل الأحوال، فإذا قلنا: أيها أعظم أن أصلي فأذكر الله عز وجل في الصلاة، أم أكون ذاكراً لله في كل الأحوال بما فيها الصلاة؟ فلا شك أن هذه الحالة الثانية أعظم.
فهذا المقصود أنك بذكر الله سبحانه يطمئن قلبك، سواء كنت في الصلاة، أو في غير الصلاة، فكأنه يشير إلى الذكر لله سبحانه وتعالى دائماً.
والذكر يكون باللسان وبالقلب وبعقل الإنسان، كأن يتفكر ويتعظ بما يقول ولا ينسى.
وقد يذكر الله عز وجل بلسانه وعقله في شغل آخر لا يفهم ماذا يقول، كمن يجلس يسبح الله بعد الصلاة ولا يكون فاهماً لما يقول؛ فإن شاء الله يكون له أجر على ذلك.
لكن أجر من يقول: سبحان الله، وهو يفهم معناها، ويتدبرها، ويتلذذ بطعم سبحان الله وهو يقولها، فهذا أعظم بكثير من إنسان يقول بلسانه ولا يفهم بقلبه، وإن كان الذكر باللسان يؤجر عليه.
والذي يقرأ القرآن قراءة سريعة يتدبر بعضها؛ يريد أن يراجع لكيلا ينسى فهو مأجور على ذلك، وأعظم منه من يقرأ بتأنٍ وتمهل وخشوع تدبر وتفكر واتعاظ، قال تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:٤٥]، وذكر الله يكون بقراءة القرآن، وكذلك بالأذكار التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم وبدعاء الله سبحانه وتعالى، وذكر الله بأن تطلب منه الجنة، وأن تتعوذ به من النار، فلا يزال ذكر الله على بال المؤمن وفي قلبه فيكون ذاكراً لله سبحانه وتعالى بلسانه وبقلبه.
فإذا كان عقل الإنسان حاضراً وهو في ذكر الله تبارك وتعالى، فهذا عظيم جداً، وتأتي مكافأة من هذا شأنه في الدنيا وفي الآخرة، فينجيه هذا الذكر من مضايق كثيرة جداً بكثرة الذكر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أردتم أن يستجيب الله لكم وقت البلاء فأكثروا من الدعاء وقت الرخاء)، ففي وقت رخائك أكثر من الدعاء، فإذا جاء وقت البلاء استجاب الله عز وجل لك؛ لأن صوتك مسموع في السماء، والملائكة تشهد لك عند الله سبحانه، وهو أعلم.
فلا يزال الإنسان ذاكراً لله حتى يعطيه الله عز وجل ما يتمناه في الدنيا والآخرة.
وكلما كان الإنسان منشغلاً بالدنيا كلما كانت الأماني موجودة، فيقول: يا رب! أعطني مالاً أو أعطني قصراً أو غير ذلك فطلباته في الدنيا كثيرة.
وكلما ترقى الإنسان ووصل لدرجة في ذكر الله سبحانه وحبه كان أمله في الآخرة يقول: يا رب! أسألك الجنة وأريد الحور العين، يا رب! أريد قصوراً في الجنة، فإذا كان يوم القيامة ووجد ما دعا به تمنى أنه لم يستجيب له دعاء في الدنيا وأنه ادخر له كل ذلك ليوم القيامة.
فالإنسان الذاكر لله عز وجل يعطيه الله ما يتمنى في الدنيا أو في الآخرة، وقد ترى إنساناً حقيراً، وتجده يمشي حافياً، وملابسه مقطعة أو مرقعة، ولكنه قرير العين، ومستريح البال، ومطمئن القلب، قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:٢٨].
وفي الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، وهذه الجنة هي جنة حب الله سبحانه وذكره.
فالمؤمن يستمتع بذكر الله، ويصل أقصى درجات الاستمتاع في الجنة، فيلهم التسبيح كما يلهم النفس، أي: كما أن النفس في الدنيا لا يستغنى عنه فكذلك أهل الجنة لا يستغني أحد منهم عن ذكر الله سبحانه، وعن تسبيح الله؛ لأنه استمتع به أعظم استمتاع.
والجنة عظيمة غالية، وأعظم ما يكون للإنسان المؤمن في الجنة والذي يتمناه أن ينظر إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يتشرف بالقرب من الله سبحانه.
وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالذكر في آيات كثيرة، قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:١٥٢] وأمر الله عز وجل بقراءة هذا القرآن، وبالاستماع له فقال: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِك} [العنكبوت:٤٥] وقال: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:٢٠٤]، وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:٢٤]، وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:٨٢].
وذكر المؤمنين الصالحين فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:٢٨] كذلك أمر الله سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر فقال: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه:١٣٠]، أي: الصلاة قبل طلوع الشمس وهي صلاة الفجر، وقبل غروبها وهي صلاة العصر، فتواظب على صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم قال تعالى: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه:١٣٠]، فجمع الصلوات الخمس في هذه الآية من سورة طه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم مأمور والمؤمنون مأمورون تبعاً بالصبر وإقامة الصلاة.
ومدحهم الله سبحانه فقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:٣٦ - ٣٧]، فبدأ بالذكر ثم ثنى بإقامة الصلاة.
فهو في حال بيعه وشرائه ذاكر لله عز وجل، ففي صلاته لا بد أن يكون ذاكراً لله سبحانه؛ لأن حاله دائماً على ذلك، يتلذذ بذكر الله.
وإذا ذكر الله ذكره الله، كما جاء في الحديث القدسي: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملئه ذكرته في ملأ خير منه)، وقد جاءت في ذكر الله عز وجل أحاديث عظيمة جميلة منها ما رواه أبو داود عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل) فالنبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه أن يجلس من الفجر إلى أن تطلع الشمس مع قوم يذكرون الله سبحانه، ثم قال: (ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة)، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: (أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله رب العالمين)، فتقول: الحمد لله وتثني على الله سبحانه، وتشكر الله سبحانه، قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:٧]، فكأنك تطلب منه المزيد، فإذا أعطاك نعمة وحمدت الله تعالى جعل لك زيادة فوق هذه النعمة من فضله ومن كرمه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون الموحدون قالوا: ما المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)، يعني: سبقوا إلى الجنات سبقوا إلى النعيم، غيرهم محبوس في الحساب وهم حوسبوا بسرعة ودخلوا إلى الجنة فسبقوا غيرهم إلى الجنات.
وجاء أيضاً في الحديث أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فاخبرني بشيء أتشبث به)، يعني: أن الشرائع والسنن والأفعال كثيرة فأنا أكثر حاجة إلى ما أواظب عليه فلا أنساه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله).
وليس معناه أن يترك الصلاة والصيام، بل كأنه نصحه بأعظم ما يكون أن يذكر الله عز وجل ليذكره فيستغل بذلك وقته.
وروى الإمام الترمذي عن أبي الدرداء: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم)، وكل إنسان يتمنى لو أنه يعمل شيئاً من هذه الأشياء أو ينالها، وقوله: (خير) أفعل تفضيل بمعنى: أفضل وأخير أعمالكم، وأزكاها وأطهرها، وأعلاها، وأنفسها عند الله سبحانه وتعالى، فما هو الشيء الذي هو أعظم من إنفاق الذهب والفضة، وخير من الجهاد؟ (قالوا: بلى، قال: ذكر الله تعالى).
فذكر الله عز وجل أعظم من هذه الأشياء، لأنه يدعو المؤمن لكل هذه الأشياء، فإذا ذكر الله تعالى دعاه إلى الصلاة، ودعاه إلى الصوم فصلى وصام، ودعاه إلى الجهاد في سبيل الله سبحانه، وإذا لقي عدو الله ذكر الله فلم يرهب أحداً، ولم يخف أحداً، فكان الذكر أعظم.
لكن انظر للإنسان الذي ينفق الذهب والورق فلعله لا يذكر الله عز وجل وينساه، فيرائي بعمله، ويسمع به، وينتظر الجواب في الدنيا ولم يعمل العمل لله فحبط هذا العمل بذلك.
فإذا أعطى إنساناً فقيراً مالاً وبعد فترة شتمه الفقير قال له: يا ليتني لم أعطك شيئاً، أنا الذي أكلتك وشربتك، مَنّ عليه فضاع الأجر، فإذا كان ذكر ال