[تفسير قوله تعالى: (فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا)]
قال الله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنْ اصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [المؤمنون:٢٧]، هذه هي الفلك التي ذكرها قبل هذه الآية: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون:٢٢] أي: فحملكم الله عز وجل على هذه السفينة، وسخر الماء لحمل السفينة، وسخر الرياح لإجراء السفينة، وسخر سبحانه وتعالى البر لترسو عليه هذه السفينة، فالنعمة منه سبحانه وتعالى وحده.
قال تعالى: ((أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا)) ويا ترى كم حجم هذه السفينة؟ معلوم أن سفينة سيكون فيها مجموعة من البشر ومجموعة من الدواب من كل زوجين اثنين لابد أن تكون سفينة كبيرة، وكون إنسان واحد يصنع هذه السفينة هذا من فضل الله عز وجل، وإلا ما كان لنوح ولا غيره أن يقدر على أن يصنع هذه السفينة، ولكن الله علمه كيف يصنع هذه السفينة، فإذا به يأتي بالأخشاب ويجعلها في البر، ويمر به قومه وهو يصنع هذه السفينة، فيقولون: ماذا تصنع يا نوح؟ فيقول: أصنع سفينة، فيسخرون منه ويستهزئون به كيف يصنع سفينة في البر؟ قال تعالى: {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود:٣٨ - ٣٩].
إذاً: لم يستجيبوا لدعوته، بل وهو يصنع السفينة لم يتركوه في حاله، بل كلما مروا عليه في ذهابهم وإيابهم سخروا منه قال الله عز وجل: ((فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا)) ونحن نراك وندلك ونرشدك ونقويك، فالله هو الذي علمه وأوحى إليه أن يصنع السفينة، قال الله: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر:١٣]، أي: اصنع من الخشب الألواح واجعل اللوح جنب اللوح، وثبتها بالمسامير وهي الدسر.
وقوله: (بأعيننا) أي: برعايتنا، فهو يراه سبحانه وتعالى ويراعيه في ذلك، قال تعالى: ((فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا)) أي: سنجعل لك علامة حتى تركب في هذه السفينة، وهذه العلامة هي هذا الفرن الموجود، فإذا خرج منه ماء بدل النار فاركب السفينة أنت ومن معك، قال تعالى: ((فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ)) أي: أخرج التنور ماء بدلاً من النار، ((فَاسْلُكْ فِيهَا)) أي: أدخل فيها، تقول: سلكت الخيط في ثقب الخرز، أي: أدخلته، فهنا قال: ((فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ)) ((مِنْ كُلٍّ)) وكأن التنوين هنا للتنكير، أي: اسلك من كل شيء زوجين، وهذه قراءة حفص عن عاصم فقط، أما بقية القراء فيقرءونها: ((مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)) على الإضافة، والمعنى: أركب فيها من كل دابة من الدواب ذكراًَ وأنثى، حتى تدوم الحياة بعد ذلك.
فهذه منة من الله عز وجل في نجاة الخلق ووجود هذه الذريات، إذ حملهم في السفينة.
ثم قال: ((وَأَهْلَكَ)) أي: واحمل أهلك معك، لكن الذين سبق عليهم القول أنهم لا يؤمنون مثل زوجة نوح ومثل ابن نوح فهؤلاء لا يركبون فيها، قال تعالى: ((إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ)) أي: إلا من سبق عليهم قضاء الله وقدره أنهم لا يؤمنون فلا يركبون معك في السفينة.
ثم قال: ((وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)) أي: لا تخاطبني بعد أن تركب في السفينة في شأن الظالمين، فالإنسان قد يرى عدوه أمامه فيدعو ربه عليه: يا رب خذه يا رب أهلكه، وعندما ينزل عليه العذاب إذا به يرحمه ويدعو له، فهنا كأن الله سبحانه وتعالى يقول لنوح: أنا معذب هؤلاء، فإذا نزل العذاب فلا ترحمهم، ولا تدع لهم بالرحمة؛ لأننا لن نستجيب لك في ذلك، فقال سبحانه: ((وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)) أي: سنغرق هؤلاء الظلمة، فلا ترحمهم، ولا تكلمني فيهم.
فسيدنا نوح عليه الصلاة والسلام فعل هذا الشيء إلا مع ابنه، فإنه سأل ربه وقال: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:٤٥]، فكان
الجواب
{ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:٤٦].