تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم)
يذكر الله النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنه أرسل الرسل من قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هو أول الرسل عليه الصلاة والسلام، قال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ} [الروم:٤٧]، فكل رسول كان يرسل إلى قومه، وخص نبينا صلى الله عليه وسلم بميزة عظيمة جداً فضل بها على كل الرسل، فلم يرسل إلى قومه فقط، ولكن أرسل إلى الخلق جميعهم، إنسهم وجنهم، فهو رحمة للعالمين صلوات الله وسلامه عليه.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ} [الروم:٤٧] هؤلاء الرسل جاءوا أقوامهم بالبينات، وجاءوهم بالمعجزات، وبالحجج النيرات، وبالآيات العظيمات من رب العالمين، وكل نبي بعثه الله سبحانه وتعالى معه آية من الآيات، فإبراهيم من أعظم آياته عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أنه ألقي في النار ولم تحرقه النار، وهي آية تناسب طبيعة قومه عباد الأصنام وعباد الكواكب وعباد النيران، ومن عبد شيئاً يظن أن هذا الشيء يحميه، ويدفع عنه ضره، وهذا عدوهم إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، أججوا النار التي يظنون أنها تنفعهم وتضر إبراهيم، فألقوا إبراهيم فيها من مكان بعيد، فإذا بالنار تكون برداً وسلاماً على إبراهيم! لم تنفعهم نارهم، ولم تنفعهم عبادتهم غير الله سبحانه، قال الله عز وجل: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:٦٩ - ٧٠]، فهم أسفل ما يكون وأخسر ما يكون عندما أرادوا الكيد بإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
فهذه آية من آيات رب العالمين سبحانه، يري هؤلاء أن ما تعبدون لا تنفعكم، بل تضركم في الدنيا وفي الآخرة.
وهذا موسى النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يبعثه الله سبحانه وتعالى إلى قومه، وولد في السنة التي يقتل فيها الصبيان، وكان أخوه هارون أكبر منه قيل: بثلاث سنوات، ففي السنة التي ولد فيها هارون لم يكن يقتل فيها الصبيان، فعاش هارون عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، والسنة التي ولد فيها موسى كان فرعون يأمر بقتل الصبيان، وإذا بالله ينجي موسى في بيت فرعون! وهذا الأمر العجيب من آيات رب العالمين سبحانه وتعالى.
ينشأ موسى عليه الصلاة والسلام في وسط هؤلاء القوم الذين يظنون أن السحر ينفعهم، وأنهم يكيدون لأعدائهم بالسحر، فيجمع فرعون السحرة من كل مكان، ويقوي بهم دعائم ملكه.
وعندما شب موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، منَّ الله سبحانه وتعالى عليه بالرسالة، ويأتي إلى فرعون ليدعوه إلى رب العالمين، وإذا فرعون يتعاظم ويتعالى ويقول: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:٢٣]، ما هو رب العالمين الذي جئت تدعو إليه؟ {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:٢٦ - ٢٨]، فأنتم لكم عقول، فلا تقولوا عني: مجنون، فأنتم تعرفون أن الذي خلق المشرق والمغرب وما بينهما هو الرب سبحانه وتعالى.
وفرعون يأتي بالسحرة، وموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يأتيهم بآية من آيات الله سبحانه، وسحر السحرة أعين الناس حتى موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فإذا بموسى ينظر إلى عصي السحرة وحبال السحرة، فيخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، فيأتي من الله عز وجل التثبيت لموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، اثبت إنك أنت الأعلى، سنعليك وننصرك عليهم، {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:٦٩]، فجاءهم ربهم سبحانه بآية من جنس ما يصنعون، أنتم تخيلون للناس ولا تقدرون على قلب الأشياء حقيقة، ولكن الله عز وجل يجعل هذه العصا التي في يد موسى ثعباناً حقيقياً وأنتم لا تقدرون على ذلك، فبهت هؤلاء الكفار، {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الأعراف:١٢٠]، فكانت معجزة من أعظم المعجزات التي تفيد مع هؤلاء القوم.
وعيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام جاء إلى قوم اشتهروا بصناعة الطب، والطبيب لا يستطيع أن يشفي من ولد أكمه أعمى، فإذا بالمسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام يدعو له فيشفيه الله سبحانه وتعالى بإذنه، قال الله عنه: {وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:٤٩].
ويتجاوز ذلك إلى أن يدعو ربه فيحيي على يديه الموتى بإذن الله سبحانه وتعالى! فهل تقدرون بطبكم وسحركم أن تفعلوا هذا الشيء؟! فكانت آية ومعجزة من جنس ما يصنعون، فأنتم علماء في الطب، وهذا يفوقكم بشيء تعجزون عنه.
وجاء نبينا صلى الله عليه وسلم من عند ربه بأعظم الآيات وهو هذا القرآن العظيم المعجز، فالعرب كانوا أهل فصاحة وأهل بلاغة وأهل شعر وأهل خطابة، ويتنافسون في ذلك ويرتجلون ذلك، فإذا بالله سبحانه وتعالى ينزل على نبيه صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب، ويتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله، والتحدي يدفعهم إلى العصبية وقبول التحدي مهما كان هذا التحدي؛ فلا يقدرون أن يقبلوا هذا التحدي، ويخنعون ويذلون ويسكتون عن ذلك.
وعندما افترى أحدهم ليأتي بمثل القرآن ضحك الناس منه، وقيل له: إنك تعلم أنا نعلم أنك كاذب! فهذا القرآن هو المعجزة العظمى الذي نزل على النبي صلوات الله وسلامه عليه، وإعجازه من وجوه كثيرة، من وجه بلاغته وفصاحته، ومن وجه إخباره عن أشياء غائبة لا يعرفها الناس، فتكون كما قال، كما في أول هذه السورة: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:٢ - ٤]، فكان الأمر على ما قال الله سبحانه، وإن كان ذلك في نظر الناس مستحيل أن يغلب الروم فارس، ويخبر الله أنه ليس مستحيلاً، وسيكون خلال سنين قليلة، فكان كما قال الله سبحانه وتعالى.
ومن الإعجاز الذي في كتاب الله سبحانه أشياء تختص بعلم الفلك، وبعلم الرياح والسحاب، وبعلم الجيولوجيا والأرض، وغير ذلك من الآيات العظيمة؛ ليعلمنا أن هذا كتاب رب العالمين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بدعاً من الرسل، ولكن هذا رسول من عند رب العالمين، جاءكم بالآية العظمى كما جاء الأنبياء من قبله بآيات إلى قومهم.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} [الروم:٤٧] إذا جاءوا أقوامهم بالبينات، فمنهم من صدقوا ومنهم من كذبوا، فإذا بالله ينتقم من المجرمين، ويجازيهم على إجرامهم وعلى تكذيبهم وكفرهم.
{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:٤٧] هذا وعد من الله سبحانه وتعالى، أنه ينصر المؤمنين، والله لا يخلف الميعاد أبداً، وإذا رأى المسلمون أنهم لم ينتصروا فليرجعوا إلى أنفسهم ليعرفوا أسباب ذلك، فالسبب من أنفسهم، أما الله عز وجل فوعده الحق، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:٤٧].
نسأل الله عز وجل أن ينصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، وأن يخذل الكفرة والمشركين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.