[تفسير قوله تعالى: (الذي أحلنا دار المقامة من فضلة)]
قال الله تعالى: {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:٣٥] أحلنا أي: أنزلنا وأدخلنا، ((دار المقامة)) أي: الدار التي فيها الإقامة الدائمة وهي الجنة.
فالله سبحانه بمنه وكرمه أنزلنا فيها وجعلنا أهلها وجعلها دارنا ننزل فيها ولا نظعن عنها، ولا نخرج منها أبداً، ((مِنْ فَضْلِهِ)) أي: تكرماً منه سبحانه وليس باستحقاقنا؛ لأن أعمالنا لا تساوي أن ندخل هذا المكان العظيم، ولكن بفضل الله أنزلنا فيه، ((لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ)) أي: لا يمسنا فيها تعب، ((وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ)) اللغوب هو الإعياء، فالإنسان إذا عمل عملاً يمسه النصب والتعب، وتكل أعضاؤه، فهو مع العمل بلغ به الجهد أقصاه حتى إنه صار كالمريض، فأهل الجنة لا يمسهم فيها تعب يسير ولا تعب شديد؛ لأنه لا تعب ولا إعياء في الجنة، فأهل الجنة يمرحون ويلعبون ويأكلون ويشربون، وهم في نعيم مقيم في جنات إقامة دائمة ((جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا)).
فإذاً: أهل الجنة كانوا في الدنيا في دار عمل وفي دار عناء وتعب؛ لأن الدنيا دار التكليف، فالله عز وجل يكلف عباده ويلزمهم بأشياء فيها مشقة عليهم، فهو ألزمهم أن يصلوا وأن يصوموا وأن يجاهدوا في سبيل الله، فهذه تكاليف شرعية فيها شيء من المشقة، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فهو سبحانه لم يكلفنا مالا نطيق، لا، ولكن يكلفنا أقل مما نطيق، فقد كلفنا سبحانه وتعالى بخمس صلوات في اليوم والليلة، ونحن نطيق أكثر من ذلك، بدليل أننا نصلي نوافل، وكان ربنا سبحانه قد فرض على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج خمسين صلاة، ومن فضل الله سبحانه وكرمه أن جعل موسى يراجع النبي صلوات الله وسلامه عليه، حتى خفف الله عن عباده وجعلها خمس صلوات، وقال: (أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، هن خمس صلوات)، فإذا نظرنا في الخمسين صلاة متى نصلي هذه الخمسين، وكيف نقدر عليها، يقول سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦]، فلم يكلفنا إلا ما نطيق سبحانه وتعالى، فكلفنا أقل مما نطيق فقد كلفنا خمس صلوات في اليوم والليلة.
ومن فضله سبحانه أن أمرنا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) رحمة من الله سبحانه وتعالى.
كذلك الصيام أول ما فرضه الله على النبي صلى الله عليه وسلم، كان يبدأ من العشاء ويظل المرء صائماً الليل كله والنهار كله إلى أن تغرب الشمس، فجعل في هذا الصيام مشقة؛ ليرينا سبحانه أنه لو شاء لأعنتنا، ولكن الله بالمؤمنين رءوف رحيم سبحانه وتعالى، وهو لطيف بعباده، فجعل ذلك فترة وجيزة ثم خفف سبحانه وجعل الصيام على الهيئة التي عليها الآن، نصوم من الفجر حتى غروب الشمس ونطعم الليل كله حتى الفجر، فضلاً وكرماً من الله سبحانه وتعالى.
لذلك أهل الجنة يذكرون ما كانوا عليه في الدنيا، فيقولون: عبدنا ربنا بفضله؛ فهو الذي دلنا على عبادته، وهو الذي أعاننا على عبادته، وهو الذي يسر لنا ذكره وشكره وحسن عبادته، فالفضل منه أولاً وآخراً، ذلك هو الفضل الكبير.
كذلك أهل الجنة يأكلون ويشربون ما شاءوا، أما الإنسان في الدنيا فإنه إذا أكل وزاد عن حده انقلب إلى ضده، ولم يقدر على الطعام، وتعب وذهب إلى المستشفى من التخمة التي يصاب بها.
كذلك الإنسان يأكل في الدنيا ويخرج ذلك غائطاً وبولاً، أما في الجنة فلا شيء من ذلك، لا قذارة فيها، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولا بول ولا غائط ولا جشاء ولا حيض ولا نفاس؛ لأن الجنة دار طهرها الله سبحانه وطهر أهلها، فهم يأكلون ما يشاءون، فيخرج هذا منهم عرقاً يسيل من أبدانهم له رائحة المسك، لا يحتاج إلى وضع مسك.
وأهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، يرزقهم الله سبحانه التسبيح ويستمتعون بالتسبيح.
في الدنيا الإنسان المؤمن الذي يعرف ربه يستمتع بالتسبيح، يقول: سبحان الله، ويستشعر هذه الكلمة العظيمة، سبحانك ما أعظمك يا رب العالمين، فكأنه يتذوق حلاوة هذه الكلمة بلسانه، ويقول: لا إله إلا الله، فيستمتع بلسانه بذكر الله سبحانه، ويطمئن قلبه بذكر الله سبحانه، فإذا دخل المؤمنون الجنة فهم في غاية الاستمتاع بذلك، فهم يلهمون التسبيح كما تلهمون النفس في الدنيا، وهم في جنة الخلود في نعيم يتذكرون الدنيا، وهم على سرر متقابلين قال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:٢٥ - ٢٨] أي: أهل الجنة يتحدثون وهم على الأسرة ملوكاً في الجنة يحدث بعضهم بعضاً: يقولون: تذكرون يوم أن كنا في الدنيا نعمل كذا وكذا، وكنا خائفين من ربنا سبحانه وتعالى، وعملنا الأعمال الصالحة بفضل ربنا علينا، ويتذكرون كيف كان الكفار يريدون إغواءهم في الدنيا، فأحد أهل الجنة يتذكر أنه عندما كان في هذه الدنيا كان له صاحب يريد أن يغويه، فقال: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات:٥١ - ٥٢]، وكان هذا المؤمن شريكاً لرجل من الكفار، فالكافر كان يأخذ ماله ويبني به القصور ويشتري البساتين ويعمل به أشياء كثيرة للدنيا، والمؤمن كان يأخذ ماله فيطعم ويشرب ببعضه، ويتصدق ببعضه، فإذا بشريكه الكافر يسخر منه، ويقول له: لماذا تتصدق بالمال؟ أمن أجل أننا مبعوثون يوم القيامة، يقول: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:٥٣] أي: سنبعث ونجازى يوم القيامة، فإذا بالله عز وجل يقول للمؤمنين: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:٥٤] أي: انظروا ماذا حصل له؟ فاطلع هذا المؤمن فرأى هذا الكافر في سواء الجحيم، {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:٥٦] أي: كنت ستهلكني في الدنيا إن اتبعتك، {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:٥٧] معك في هذا العذاب، {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصافات:٥٨ - ٦٠] فيقول الله تعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:٦١] أي: اعملوا من الآن في الدنيا لمثل هذا الجزاء العظيم ولمثل هذا اليوم الكريم الذي يُكرَم فيه المؤمنون، أما الكفرة فيهينهم الله سبحانه وتعالى، ويدخلهم ناره، ويقول ربنا سبحانه: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات:٦٢] أي: أهذا الذي هم فيه خير وإلا شجرة الزقوم التي هي في جهنم؟!