[الخسران الحقيقي هو يوم القيامة]
وقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا) فالمؤمنون الآن يتكلمون، فقد كانوا في الدنيا مكتوماً على أنفاسهم لا يتكلمون من هؤلاء الفجرة الكفرة المجرمين، فلما أدخل المجرمون النار فرح المؤمنون برحمة رب العالمين عليهم وحمدوه على ذلك، (إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي: ذهب منهم كل شيء كان معهم في الدنيا، فقد كانوا ملوكاً وحكاماً وأمراء وكان معهم في الدنيا أشياء كثيرة، أما في يوم القيامة فلا يبقى معهم شيء من أشياء الدنيا، قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:٢٢ - ٢٦].
أي: لا يقدر أن ينصر بعضهم بعضاً، فأين ذو الأكتاف الذي كان يقول: سنقف على باب جهنم؟ قال الله تعالى: (وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ) أي: قد أذلهم الله سبحانه بما استكبروا في الدنيا على خالقهم، دعوا إلى دين الله فأبوا واستكبروا، ورفعوا أصواتهم على خلق الله سبحانه، فالآن يجزون عذاب الهون بما كانوا يستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كانوا يفسقون.
قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ) هذا هو الخسران الحقيقي، أما الخسران في الدنيا كخسارة الأموال، أو تعذيب الظلمة لنا ونحو ذلك فهذا ليس خسراناً حقيقي، والخسران الحقيقي هو أن هذا الإنسان لا يملك شيئاً، ويقاد إلى نار جهنم وقد غلت يداه إلى عنقه ولا يقدر على الفكاك، ويرى النار ولا يجرؤ أن يفتح نظره إليها والعياذ بالله، قال الله عز وجل في سورة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم:٤٣].
والناس في هذا اليوم منهم من أعماه الله فلا يرى شيئاً، ومنهم من يبصر ولكنه قد أغمض عينيه من شدة الرعب والخوف فلا يقدر أن ينظر في هذه النار.
ومعنى قوله تعالى: (مُهْطِعِينَ) أي: مسرعين تدفعهم الملائكة وتسوقهم إلى النار وهم منقادون معهم.
ومعنى قوله تعالى: (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) (قنع) من الكلمات التي لها معنيان متضادان، فهي بمعنى: رفع رأسه، وبمعنى: خفض رأسه، والصورتان في بعضهم البعض، فهم قد خفضوا رءوسهم من الذل أو قد رفعوها من الرعب ينظرون أمامهم إلى النار.
ومعنى قوله تعالى: (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ)، أي: قد أحدقوا النظر إلى النار لا يرون غيرها والعياذ بالله.
أما أفئدتهم فقد ذهبت من صدورهم إلى أعناقهم وحل محلها الهواء من شدة الرعب والخوف في هذا اليوم، قال تعالى: (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ)، لقد كان يشغلهم في الدنيا المال والبنون والزوجة حتى صارت قلوبهم فارغة قد امتلأت بالغم والهم والرعب والخوف والجبن في هذا اليوم العظيم.
أما المؤمنون فقد فرحوا برحمة الله فهم في حبور وسرور وفرح.
والإنسان يجمع الدنيا كلها من أجل أن يخلد فيها، فهو يريد أن يعيش، أما في يوم القيامة فقد فقدَ نفسه التي يحميها ويدافع عنها، فهي تدخل الجحيم والعياذ بالله، فهذا الخسران هو أعظم الخسران عندما خسر نفسه التي كان يفديها بأي شيء في الدنيا.
وكذلك خسر أهله، فقد كان في الدنيا له أولاد ونساء يستمتع بهم وكانوا كفاراً فكلهم يدخلون النار، فكل واحد له عذابه وله سجنه الذي هو فيه وإذا كانوا معه يتبرأ كل منهم من الآخر.
فإذا كان أهله مؤمنين فاستحقوا الجنة كامرأة فرعون فمستحيل أن يراهم بعد ذلك، أو أن ينال منهم شيئاً، فإن كانت زوجته فقد ضاعت منه وورثها غيره من أهل الجنة فصارت له، فقد خسر أهله أعظم الخسران ويقاد إلى النيران، ويقال له: هذا منزلك في الجنة لو أنك آمنت بالله تعالى، فأننت محروم من دخول الجنة.
والكفار لهم منزلة في الجنة وفيها الحور العين، فأورثها الله عز وجل للمؤمنين، فكان على هؤلاء أعظم الخسران والحرمان والندم والشقاء حين ضاعت الجنة وضاع كل هذا الجمال وكل هذا الذي فيها وأخذها المؤمنون.
هؤلاء الذين كانوا ينظرون إليهم في الدنيا عبيداً وخدماً فيقول أهل النار: {مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنْ الأَشْرَارِ} [ص:٦٢] كانوا معنا في الدنيا، وكنا نظنهم من الأشرار الحثالة الذين ما لهم قيمة أين هؤلاء؟ يبحثون عنهم في النار ولم يجدوهم.
ثم عرفوا أن هؤلاء دخلوا الجنة: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:٧٢] فاز المؤمنون فأخذوا الجنة العظيمة، وخسر الكفار والفجار فدخلوا النار.
قال سبحانه: (إِنَّ الْخَاسِرِينَ) أي: الخسران الحقيقي (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ).
روى ابن ماجه في الحديث الذي صححه الشيخ الألباني عن أبي هريرة قال: قال: النبي صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا له منزلان، منزل في الجنة ومنزل في النار)، أي: كل إنسان له مكانان مكان في الجنة، ومكان في النار، فإن عمل صالحاً دخل الجنة، وإن عمل غير صالح دخل النار، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله)، أي: أخذوا نصيب الكفار من الجنة، قال الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:١٠ - ١١].
والنار يملؤها الله عز وجل بالكفار فلا تمتلئ، وتظل هكذا وهي تقول: هل من مزيد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول: قط قط)، أي: يزجرها الله عز وجل فتقول: اكتفيت فتسكت.
والجنة واسعة عظيمة لا تمتلئ بأهلها وكلما أعطاها الله عز وجل من أهلها فهي لا تمتلئ حتى ينشئ الله لها خلقاً آخر، أي: يخلق لها خلقاً لم يذنبوا قط ويجعلهم في الجنة ينعمون فيها.
يقول ربنا سبحانه: (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ) (إن) للتحقيق والتأكيد، فالظالمون يقيناً في عذاب مقيم خالد لا يفنى ولا يزول عنهم، ويظلون في نار جهنم، كما قال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:٥٦] أي: يبدل الله عز وجل جلودهم، وهذا أصعب ما يكون من العذاب، وكذلك إذا اخترقت أمعاؤه ومعدته كأن يحصل للمعدة قرحة فيتألم الإنسان ألماً شديداً جداً، ولو أن القرحة فتحت المعدة وخرقتها لكان الألم مثل الموت تماماً.
فهؤلاء تتمزق أمعاؤهم في النار، قال تعالى: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:٢٠ - ٢٢].
فعذابهم في النار كلما نضجت جلودهم وتفحمت وظنوا أنهم سيموتون ويرتاحون من العذاب، فإذا بجلودهم تتبدل مرة ثانية وثالثة وهكذا أبداً، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:٥٦] ويقال لهم: ذوقوا عذاب السعير والعياذ بالله وهم في عذاب مقيم دائم لا ينقطع.