[اختلاف أهل العلم في التعريض بالزنى هل هو قذف أم لا]
اتفق العلماء على أن القاذف إذا صرح بالزنا كان قذفاً، كأن يقول: أنت زانٍ مثلاً، وأما إذا لم يصرح بالزنى بل عرض بكلام يفهم منه ذلك فاختلف العلماء هل يقام عليه الحد أو لا؟ فذهب الإمام الشافعي وأبو حنيفة إلى أنه في التعريض لا يقام عليه الحد، وقد يعزر على ذلك.
وذهب الإمام مالك والمشهور عن أحمد أنه في التعريض يقام الحد عليه.
وسبب الخلاف أن هذا التعريض هل ينظر فيه إلى براءة ظهر هذا الإنسان فيحمي ظهره من الجلد، أو إلى أن المقذوف أوذي بهذا الكلام الذي قيل له؟ فمن العلماء من غلب النظر إلى أن الأصل البراءة إلى أن يثبت القذف بالتصريح، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة.
ومن العلماء من قال: إن التعريض فيه ما يساوي التصريح، فإذا عرض في الكلام كان في ذك إيذاء يستحق أنه يقام عليه الحد، ولعل هذا هو الأرجح.
وقد ذكر الله التعريض في كتابه عن قوم شعيب لما قالوا عن سيدنا شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:٨٧] وهم يقصدون: إنك لأنت السفيه المتهور، فذكرها الله عز وجل في كتابه مشنعاً على هؤلاء السفلة الذين قالوا ذلك لنبيهم عليه الصلاة والسلام، فدل ذلك على أن التعريض كالقذف الصريح.
وكذلك ذكر الله سبحانه وتعالى عن أبي جهل أنه يقال له يوم القيامة: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:٤٩] وهو في موقف ذل ومهانة يوم القيامة، والمقصود به الإهانة والتحقير، لأنه كان يظن نفسه عزيزاً في الدنيا، فقيل له: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:٤٩]، والمقصود: إنك أنت الذليل المهان.
وكذلك حكى الله عز وجل عن قوم مريم عليها السلام لما أتت قومها تحمل غلاماً أنهم قالوا لها: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:٢٨] أي: من أين أتيت بهذا الغلام ولم يكن أبواك يقع في جريمة الزنا، ولا كانت أمك بغياً، والمقصد هو التعريض بأن هذا الغلام من البغي، فأنطقه الله سبحانه وتعالى وقال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم:٣٠]، وقد ذكر الله عز وجل قول اليهود عن مريم فقال: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء:١٥٦]، وكان من قولهم: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:٢٨]، فكأن التعريض أخذ حكم التصريح.
وأيضاً: جاء أن عمر رضي الله عنه حبس شاعراً اسمه جرول، لما قال لأحد الناس: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي فهذا لا يقصد به المدح، وإنما المقصود به الذم والشتم وأنه كالمرأة تقعد في بيتها، وتؤتى بالطعام والشراب والكسوة، فلذلك حبسه عمر رضي الله عنه، وتوعد هذا الشاعر بقطع لسانه.
وأيضاً لما سمع قول النجاشي يقول عن أناس: قبيلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل أي: أن هذه القبيلة لا يظلمون أحداً ولا يغدرون بأحد، وهذا كأنه مدح ولكن الحقيقة أنه شتم وسب، فـ عمر سمعه وأخذ الكلام على محمله أنه يمدحهم، فسأل رجلاً عنده: تراه ذمهم؟ قال: لقد بال عليهم بهذا الكلام، والمقصود أنهم ضعفاء لا يقدرون أن يقوموا بهذا العمل.
فقوله: ولا يظلمون الناس حبة خردل تعريض بضعفهم وقلة عددهم، وكان أهل الجاهلية ينصح بعضهم بعضاً بالظلم، وأنه دليل القوة، فهؤلاء لا يظلمون الناس حبة خردل لضعفهم وقلتهم، وعدم قدرتهم على ذلك.
فعاقب عمر هذا الشاعر، وعاقب الآخر؛ لأن التعريض بالكلام قد يكون مثل التصريح.
فلذلك إذا عرض إنسان بآخر بهذه الجريمة وفهم من الكلام أنه يقصد الزنا فإنه يقام عليه الحد كالذي يصرح بذلك، والله أعلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.