للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس)]

وصل موسى النبي عليه الصلاة والسلام إلى مدين، قال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص:٢٣] يعني: وصل إلى بلدة فيها ماء ووجد عليه جماعة كثيرة من الناس يسقون مواشيهم، {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} [القصص:٢٣].

تبقى الصورة أنه وصل إلى بئر ماء وعليها زحام شديد من الناس كل واحد يريد أن يسقي أنعامه، وجاء موسى عليه الصلاة والسلام ونظر فإذا بامرأتين بعيدتين عن الناس معهما مواشيهما تذودانهما، أي: فكأنهما تدفعان الأغنام كيلا تزدحما مع الناس، خوفاً من أن تضيع الأغنام، فكان الناس يسقون والفتاتان تنتظران حتى ينتهوا ثم يذهبوا، وبعد ذلك تسقيان، وهذا لا شك انتظار طويل ممل.

فمعنى قوله تعالى: {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} [القصص:٢٣]، أي: تدفعان أغنامهما أو مواشيهما بعيداً عن الماء وبعيداً عن الناس.

قال تعالى: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} [القصص:٢٣]، والخطب بمعنى المصيبة والأمر الهام العظيم.

وكأنه وجد المرأتين في حسرة وشدة وضيق، ولذلك لم يقل: ما حالكما؟ إنما قال: ما خطبكما وأي بلية نزلت بكما؟ فموسى عليه الصلاة والسلام الذي خرج ماشياً من مصر حتى وصل إلى مدين بعد مشي طويل وتعب شديد ولم يأكل إلا أوراق الأشجار، هو الذي كان قد دعا قبل ذلك فقال: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:١٧]، أي: سيكون نصيراً للضعفاء.

وهاتان المرأتان ضعيفتان، فسألهما ليساعدهما، ثم كان جوابهما: {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:٢٣] أي: لا نقدر أن نسقي الأغنام أو الأنعام حتى يذهب كل الرعاة.

وفي قوله: {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص:٢٣]، قراءتان: وهذه قراءة الجمهور.

وقراءة أبي جعفر وأبي عمرو وابن عامر {حَتَّى يَصدُرَ الرِّعَاءُ} [القصص:٢٣] بجعل الفعل ثلاثياً من صدر بمعنى: مشى، ويكون المعنى: حتى يمشي الرعاء.

والقراءة الأولى من الفعل الرباعي (أصدرَ) فيكون المعنى: حتى يأخذوا الأنعام وينصرفوا بها، وهذه قراءة الجمهور.

فكأن الإنسان الوارد من أقبل على الماء، والصادر من انصرف عنه.

قالتا: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:٢٣] يعني: ليس عندنا رجال إلا أبانا، وأبونا شيخ كبير ضعيف لا يقدر أن يأتي بهذه الأغنام فيسقيها فاضطررنا لذلك، فسقى لهما عليه الصلاة والسلام كما سيأتي.

<<  <  ج:
ص:  >  >>