[العفو والغفران من صفات المؤمنين]
قال الله عز وجل: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:٣٧].
الإنسان المؤمن مطلوب منه عند الغضب أن يكظم غيظه، ولا ينفذ غضبه حتى لا يؤذي نفسه ويؤذي غيره إلا أن يكون الغضب لله سبحانه وتعالى.
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبر ويحلم إلا أن يكون لله فيغضب ويقيم حد الله سبحانه.
والمطلوب من المؤمن أن يتجاوز ويعفو إلا أن يكون في حد من حدود الله سبحانه، إلا أن تنتهك حرمات الله ففي هذه الحالة يغضب لله سبحانه ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإذا لم يتمعر وجهه حين تنتهك حدود وحرمات الله فهو يستحق العذاب لذلك.
وقوله تعالى: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:٣٧]، نزل في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقوله: (يغفرون) أي: يتجاوزون ويحلمون عمن يسيئ إليهم.
فـ أبو بكر شتمه إنسان، فتجاوز عنه أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فلامه الناس لماذا لا يرد عليه، وكان ذلك في مكة، فمدح الله تعالى أبا بكر رضي الله عنه في ذلك.
وقيل: بل نزلت حين لامه الناس على إنفاق ماله كله، وحين شتم فعفا وصفح، فأنزل الله عز وجل ذلك.
ولكن العبرة بعموم اللفظ، فهي وإن كانت نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، ولكنها تعم أبا بكر وغيره من المؤمنين.
فكل إنسان مؤمن أوذي في شيء وعفا مع قدرته على الانتصار فالله عز وجل يعطيه هذا الأجر.
وقد كانت العرب تعد من مكارم الأخلاق أن يتغافل الإنسان أحياناً عمن يسيء إليك، ولذلك قال أحدهم: ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت ثمت قلت لا يعنيني أي: أمر على هذا اللئيم وهو يسبني فأقول: إنه لا يقصدني إنما يقصد شخصاً آخر، ويتغافل عن مثل ذلك.
وقد يقدر الإنسان أن ينتصر على من ظلمه، ولكن الإسلام يعود الإنسان على ضبط النفس والعفو مع القدرة، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصائم: (فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم)، لم يقل: فليسبه وليقاتله، ولكن قال: (فليقل: إني صائم)، فيذكر نفسه ويذكر غيره بأنه صائم، فلا يرد على الإنسان ما فعله بمثله، ولكن يعفو ويصفح، إلا أن يكون في حد من حدود الله فينتقم لله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:٣٧]، أي: يتجاوزون ويحلمون، وإذا كظمت الغيظ فقد يهيج الناس المشاعر بقولهم: أنت ضعيف لم تقدر عليه؛ فهنا تذكر نفسك بمثل هذه الآية، وبمثل قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:٣٥].
وبما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث في البشارة بما يكون وراء هذا الصبر العظيم.
فمما جاء عنه صلى الله عليه وسلم حديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وهو حديث صحيح، ورواه الإمام أحمد أيضاً ونذكر رواية الإمام أحمد وهي أطول من غيرها وهي حسنة، عن سهل بن معاذ عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كظم غيظه وهو يقدر على أن ينتصر دعاه الله تبارك وتعالى على رءوس الخلائق حتى يخيره في حور العين أيتهن شاء).
فالإنسان المؤمن يذكر نفسه بأن من وراء كظم الغيظ حور العين، وهذه أعظم جائزة يتمناها الإنسان من الله سبحانه وتعالى، والحور العين ليست مثل نساء الدنيا، بل أعظم وأجمل بكثير من نساء الدنيا، ولو أن واحدة منهن اطلعت على هذه الدنيا لأضاءتها، والحور العين خلقهن الله عز وجل لعباده المؤمنين، {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:٥٦].
ثم قال: (ومن ترك أن يلبس صالح الثياب وهو يقدر عليه تواضعاً لله تبارك وتعالى، دعاه الله تبارك وتعالى على رءوس الخلائق حتى يخيره في حلل الإيمان أيتهن شاء).
وهذا من فضل الله سبحانه على الإنسان المؤمن الغني حين يتواضع، فهو يقدر أن يشتري أفخر الثياب، وبإمكانه أن يشتري بدلة بعشرة آلاف جنيه، أو بمائة ألف جنيه، لكنه يتواضع فيلبس مثل الناس.
وليس معنى ذلك أن يلبس الصوف، أو يلبس الخشن، أو يلبس الشيء الذي يزدريه الناس، لكن المطلوب هو التواضع، فيعيش كما يعيش الناس، يلبس الزهيد من الثياب، والعادي من الثياب الذي يلبسه الناس، لكن بقصد أن يفعل ذلك ابتغاء وجه الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: (وهو يقدر عليه)، فهو لم يتركه بخلاً لكنه بدل أن ينفق هذا المال في شراء الثياب يتصدق به، فيدعوه الله تبارك وتعالى على رءوس الخلائق حتى يخيره بين حلل الإيمان أيتهن شاء.
وهذا الحديث يدلنا على عظم ثواب كظم الغيظ.