للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (أن اعمل سابغات وقدر في السرد)]

قال تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ:١١] أمره الله سبحانه وتعالى أن يعمل بيده الآن فعمل، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ذكر صيام وصلاة داود النبي عليه الصلاة والسلام، يقول عليه الصلاة والسلام: (أفضل الصيام صيام داود، وأفضل الصلاة صلاة داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان لا يأكل إلا من عمل يده، ولا يفر إذا لاقى).

فهذه خصال اجتمعت في داود النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأنه كان يكثر من الصيام فيصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان يقوم لله عز وجل فينام بالليل نصفه، ثم يقوم الثلث الذي يليه، ثم ينام السدس ليستريح وليقوم الفجر وهو قادر على أن يقوم بواجباته الشرعية عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وكان لا يفر إذا لاقى) كان يجاهد في سبيل الله ولا يفر أبداً، وواضح من القصة التي ذكرناها أنه هو وحده الذي تقدم لـ جالوت فقتله.

قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ولا يأكل إلا من عمل يده)، ما هو عمل يده؟ علمه الله سبحانه وتعالى صنعة الدروع، قال الله له سبحانه: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ:١٠ - ١١] سبغ الشيء بمعنى: غطى وأفاض، ومنه قولهم: لبست ثوباً سابغاً بمعنى: ثوباً يكفيني ويفضل عني، أي: ثوب واسع فضفاض يزيد ويسبغ هذا الإسباغ، فقال الله سبحانه {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ:١١] أي: دروعاً سابغات، يلبسها المجاهد المقاتل فتحميه من ضربات السيوف، فكانوا قبل ذلك يتقون بأن يأخذ المقاتل صفيحة كاملة ويضعها أمامه وأخرى خلفه درعاً يتقي بهما، فكانتا ثقيلتين عليه، لكن الله عز وجل علم داود أن يصنع الحلق، فيصنع حلقة في حلقة في حلقة ويربط الحلق بعضها ببعض، فيصنع منها الدرع الذي يلبسه الإنسان، فيكون سابغاً عليه يقيه من ضربات عدوه، فهذه هي السابغات {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ:١١]، وكان التعليم من الله عز وجل: اصنع هذا الدرع السابغ واعمل فيه كذا؟ {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:١١] الإنسان عندما يقول: أقدر كذا، يعني: يعمل شيئاً على مقاس مضبوط.

قوله: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:١١] سرد الشيء بمعنى: أنه يجعل بعضه إلى بعض، فيضع بعضه على بعض حتى يجعله ثوباً واحداً كأنه النسج، ينسج الدرع من هذه الحلقات فيجعل حلقة من حديد وحلقة أخرى، ويجعل بينهما مسماراً فيربط الحلقتين إحداهما في الأخرى، وهكذا، فيقول: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:١١] أي: اجعل الفتحة التي في الحديد على قدر المسمار الذي يدخل فيها، فليست ضيقة فيفصمها المسمار، ولا واسعة فيسقط منها المسمار، وإنما هي مضبوطة، فالله عز وجل علم داود فكان يصنع هذا الدرع العجيب الذي ما رأوا مثله قبله، ويبيعه لهم بأثمان عالية، فيأكل منها ويتصدق منها عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

فشرف الله عز وجل أنبياءه، فجعلهم يعملون بأيديهم، وشرف نبينا صلوات الله وسلامه عليه، وجعل رزقه في الجهاد في سبيل الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي)، يجاهد في سبيل الله فيكون له خمس الخمس من الغنيمة وخمس الفيء صلوات الله وسلامه عليه.

قال الله عز وجل لداود ولآله: {وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [سبأ:١١] اصنع هذه الأشياء التي علمناك إياها، واعمل عملاً صالحاً تتقرب به إلى الله عز وجل: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ:١١] أبصر ما تصنعونه وأجازيكم عليه {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ:١١].

<<  <  ج:
ص:  >  >>