[الآيات التي توهم التعارض]
جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال له: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي، أي: توهم أنها متعاكسة أو متناقضة وهي قوله تعالى: {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:١٠١].
وقوله سبحانه: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:٢٧].
كأن الرجل ظن أن فيهما تناقضاً، فإذا أشكل على رجل شيئاً فإنه يذهب إلى أهل العلم فيسألهم كما قال الله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٤٣]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلا سألوا جهلوا، إنما شفاء العي السؤال)، فالإنسان الذي يجهل الشيء ليس عيباً أن يسأل، إنما العيب أن يسكت على جهله أو أنه يفسر لنفسه أو يشرح لنفسه.
قال: وكذلك قوله تعالى: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:٤٢].
وقوله: {قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:٢٣].
وكذلك قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات:٢٧]، إلى قوله سبحانه: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:٣٠]، مع قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت:٩].
إلى قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:١١]، فالآية الأولى ذكرت أن خلق الأرض بعد خلق السماء، والآية الثانية ذكرت العكس.
وكذلك في قوله سبحانه: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفتح:١٤]، وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:١٥٨]، وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:١٣٤].
كأن الرجل لم يفهم اللغة جيداً فكأنه فهم أن الفعل الناقص (كان) يفيد الزمن الماضي فقط.
فإذا بـ ابن عباس يجيبه رضي الله عنه، ويرفع عنه الإشكال في هذه الأسئلة، ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أن يفقهه في الدين ويعلمه التأويل، فقال رضي الله عنهما: قوله تعالى: {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:١٠١] ذلك في النفخة الأولى، قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:٦٨].
فكل الخلائق يموتون فلا تنفعهم أنساب ولا أحساب ولا أموال ولا غير ذلك، فإذا نفخ فيهم النفخة الأخرى قاموا من قبورهم فيسأل بعضهم بعضاً عن يوم الحساب، قال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:٢٧].
أما قوله سبحانه عن الكفار أنهم قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:٢٣].
مع قوله: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:٤٢].
فإن الله عز وجل يغفر لأهل الإخلاص والتوحيد الذين عبدوا الله وكانوا مسلمين، فيغفر لهم صغائر ذنوبهم وكبيرها ويتجاوز عنها بسبب إخلاصهم وتوحيدهم أن قالوا: لا إله إلا الله، فلما رأى هؤلاء المشركون أن الله يغفر لأهل التوحيد قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:٢٣].
أي: نحن كنا موحدين أيضاً، فكذبوا على الله فختم على أفواههم، وشهدت عليهم أعضاؤهم بأنهم كذبوا وأشركوا وكفروا، فتنطق على أنفسهم بالحق فلا يكتمون الله حديثاً.
كذلك المنافقون يوم القيامة فإنهم يحلفون بالله سبحانه وتعالى أنهم كانوا مؤمنين ولم يكونوا مشركين: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة:١٨].
فلما كذبوا أشهد عليهم جوارحهم فينطق على أحدهم جلده ويده وفخذه ورجله {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:٤٢].
فإذا بأحدهم يدعو على نفسه ويقول: سحقاً لكن! عنكن كنت أدافع، أي: كانت لسانه تدافع عن يده ورجله وأعضائه، فيكذبون أمام الله تعالى أنهم كانوا مؤمنين تم تشهد أعضاؤهم بخلاف كذبهم، فيستحقون العذاب بشهادتهم على أنفسهم.
وجمع ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا} [فصلت:٩].
ثم ذكر الله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:١٠].
فذكر الأربعة الأيام ثم قال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت:١١]، وقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:١٢].
مع قول الله عز وجل: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ} [النازعات:٢٧].
وبعدما ذكر السماء قال: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:٣٠].
فقال ابن عباس: خلق الله الأرض في يومين: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت:١١]، فسواهن سبع سموات ثم أكمل ما في الأرض من أشياء فهنا لا يوجد أي تعارض بين هذه وهذه، فبدأ بالأرض ثم السماء ثم رجع إلى الأرض مرة ثانية، فلم يقل في قوله تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:٣٠]: والأرض بعد ذلك خلقها، وإنما دحاها أي: بسطها للناظرين، وجعل فيها المعايش لمن كان عليها، فكان كل من الآيتين يعطي المعنى نفسه.
فدحاها أي: أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والآكام وغير ذلك في يومين آخرين، فذلك قوله سبحانه دحاها، وقوله: {خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:٩].
فخلقت الأرض وما فيها من أشياء في أربعة أيام وخلقت السماوات في يومين.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:٩٦].
سمى الله سبحانه وتعالى نفسه الغفور الرحيم, فالتسمية من الأزل، ولا تزال هذه التسمية أبداً لله سبحانه وتعالى، وكان هو الفعل الوحيد الذي يصلح أن يكون للماضي وللحاضر وللمستقبل، فالله غفور في الماضي والحاضر ولا يزال هكذا أبد الآبدين سبحانه وتعالى.
وكان الله عز وجل بأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى منذ الأزل، ولم يحدث له شيء جديد، وإنما هو الله سبحانه العزيز الحكيم الغفور الرحيم في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل.
فالله لم يرد شيئاً إلا أصاب به الذي أراد، فلا يختلف عليك القرآن فهو من عند الله.
فـ ابن عباس رضي الله عنهما له قدر عظيم، فهو الذي جمع بين الآيات ورفع ما يشكل على الناس، فاستحق أن يكون ترجمان القرآن وحبر هذه الأمة رضي الله عنه وعن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.