ثم بين الله سبحانه أن طاعة الوالدين تكون بالمعروف فقال:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا}[لقمان:١٥]، فإذا أمر الوالدان الابن بالشرك بالله سبحانه، واتخاذ الأوثان والأنداد مع الله سبحانه، فهذا ليس له به علم، أي: لم ينزل الله عز وجل به من سلطان، فهو من الجهل بالله سبحانه وتعالى، فإذا أمراه بذلك فلا يطيعهما، ولكن مع ذلك يقول الله تعالى:{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}[لقمان:١٥] فلا يقسو عليهما، ولا يعاملهما بعنف، فقد قال الله سبحانه وتعالى:{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}[الإسراء:٢٣]، وأكرم القول وأفصله وأحبه أن يقال لهما كما قال الله:{وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}[الإسراء:٢٣ - ٢٤]، أي: كن معهما في غاية الذل، رعاية لحق الله عز وجل ثم لحقهما.
قال تعالى:{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}[لقمان:١٥]، يصاحب أباه وأمه في الدنيا بالمعروف، وكأن المصاحبة في الدنيا شيء، والمصاحبة في الآخرة شيء آخر، ففي الدنيا تصاحبهما بحسن الرعاية، سواء كانا مسلمين أو كافرين، وفي الآخرة لا توجد مصاحبة إلا للمسلمين فقط:{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[عبس:٣٤ - ٣٧].
ففي الآخرة إذا كانا مسلمين فسوف يشفع الابن لأبيه ولأمه، والأب والأم لأبنائهما، أما الكفار فلا شفاعة بين المسلمين وبين الكفار.
وقوله:{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}[لقمان:١٥]، هذه وصية من الله عز وجل بدوام المصاحبة بالمعروف، فلا تؤذهما، وإن طلبا منك مالاً أو غيره فأعطهما وأجزل للوالدين ثقة بالله أنه سيخلف عليك سبحانه.
وقوله:{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا}[لقمان:١٥]، أي: ما داموا في الدنيا فصاحبهما بالمعروف، وبعد الوفاة يكون البر بالوالدين بالدعاء، والإحسان إلى أصدقائهما، فإذا كان أبوك يحب فلاناً، أو كان صديقه، فأحب من أحبه أبوك، وأعطه وتصدق عليه، وهذا من برك لأبيك، وكذلك إذا كانت فلانة صديقة لأمك، وكانت أمك تحبها، أو كانت جارة لها، فلتكرمها براً بأمك، وهذا من البر بالوالدين في الدنيا وبعد الموت.
ولذلك جاء عن ابن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما أنه كان في سفر، وكان راكباً على بعير وكان معه حمار، فلقي أعرابياً، فإذا بـ عبد الله بن عمر ينزل ويسلم عليه سلاماً حاراً، ويهدي إليه، ويعطيه أحد الدابتين اللتين معه، فإذا بمن حوله يقولون: ما الذي تعمله؟! إن هذا أعرابي يرضى بدون ذلك، وبأقل من ذلك بكثير، لقد أعطيته ركوباً مما معك، ولو أعطيته أقل من ذلك لرضي، فقال: إنه كان من أهل ود عمر رضي الله عنه، وكان صديقاً له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(من البر بأبيك أن تبر أهل ود أبيك)، فـ ابن عمر ود هذا الأعرابي ليس لأنه صديق له، وإنما لصداقته لأبيه، فبره عبد الله بن عمر براً بأبيه بعد وفاته رضي الله تبارك وتعالى عنهما.