قوله:(وجعلنا ابن مريم) أي: عيسى المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهو أحد رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وأحد أولي العزم من الرسل، والذي جعله الله سبحانه وأمه آية من آيات رب العالمين، وقد نذرت أمها أن تجعل ما في بطنها لله محرراً، فكان ما في بطنها أنثى فرضي بذلك، وقالت لربها:{رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}[آل عمران:٣٦]، أي: الله أعلم بالذي وضعته أنه أنثى، وقد نذرته باعتبار أن يكون ذكراً، ولكن وفت بنذرها وجعلت الذي في بطنها لله محرراً، أي: لخدمة ربها سبحانه، وخدمة دين ربها، وخدمة بيت المقدس، فكانت مريم آية من الآيات أن حملت وهي لم يطأها أحد، ولم تتزوج، فجعل الله عز وجل فيها آية من الآيات، وجاء المسيح على نبينا وعليهم الصلاة والسلام بغير أب، فهي حملت بغير زوج وإنما بنفخة من روح القدس، وجاء المسيح عليه الصلاة والسلام بغير أب، فكان هو وأمه آية من آيات رب العالمين.
قال تعالى:(وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ)، أي: جعلناها تأوي هي وابنها إلى مكان في الأرض، في بلد من بلدان الله سبحانه وتعالى، (إلى ربوة)، والربوة هي المكان المرتفع، وقالوا: إنها توجد في مكان اسمه: (الرملة) من بلاد فلسطين، والله عز وجل آواهما، فهو سبحانه الذي يخلق وهو الذي يرزق، وهو الذي يؤوي، وهو الذي يدافع عن الذين آمنوا.
ولما جاءت أمه بهذا الولد إذا ببني إسرائيل يتهمونها بالزنا، ويحاولون إشاعة هذا الأمر بين الناس، فحماها الله عز وجل وآواها، فجاء بنو إسرائيل ليكذبوا المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فأنطقه الله سبحانه وتعالى وهو في المهد صبياً:{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}[مريم:٣٠ - ٣١]، تكلم وهو رضيع يرضع من ثدي أمه، وقد كلم القوم بهذا الكلام الفصيح البليغ، يدعوهم إلى رب العالمين، ويخبر عن نفسه أنه نبي من أنبياء رب العالمين، فكان آية، والله عز وجل حماهما ودفع عنهما البلاء، وآواهما إلى مكان مرتفع (إلى ربوة ذات قرار) أي: مكان طيب يستقرون فيه أو يستقرون عليه، والقرار: هو المكان المستوي، ولا يُستقر إلا بمكان فيه زروع وثمار، فيستطيع الإنسان أن يعيش فيه، وكأنه كناية عما في هذا المكان من أرض فلسطين أو غيرها من زروع وثمار يأكل منها المسيح عليه الصلاة والسلام وأمه.
(ومعين) وكذلك فيها معين أي: عين ماء جارية، والسيدة مريم كفلها الله عز وجل زكريا، وجعلها في كفالة زكريا وهي صغيرة، إلى أن بلغت وهو الذي يكفلها، قال تعالى:{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}[آل عمران:٣٧]، فكان أمر الرزق الذي يسوقه الله عز وجل إليها آية من الآيات، فهي في المحراب، وفي غرفتها، وفي بيت المقدس، في مكان لا يدخل إليها أحد فيه، والذي يأتيها بالطعام هو زوج خالتها، وهو زكريا على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فكان عندما يدخل إليها ينظر وإذا به يلقى طعاماً يختلف عن الذي أتاها به، فكان يسألها فتقول:{هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[آل عمران:٣٧]، فكانت آية من الآيات أن آواها الله عز وجل هي وابنها (إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ) أي: عين مياه عذبة جارية.
وقد رعاها الله وهي تلد، فكان يقول لها:{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}[مريم:٢٥]، فالله عز وجل آواها إلى مكان تلد فيه ولا يطلع عليها أحد في هذا المكان، ولا يزعجها أحد، فحملت في بطنها هذا الغلام الكريم والذي هو نبي من أنبياء الله على نبينا وعليه الصلاة والسلام، والله عز وجل جعلها في هذا المكان لتستقر فيه وتضع فيه ولدها، فآواها الله سبحانه، ولم تحتج إلى مولدة تولدها، ولم تحتج إلى أحد يعينها، فالله سبحانه وتعالى تكفل لها بكل أمرها كما يكفل لغيرها سبحانه، ولكن اعتنى بها مزيد عناية من فضله سبحانه وتعالى، قال تعالى:{فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا}[مريم:٢٦]، وقد جعل تحتها جدول ماء تأكل من البلح والرطب من هذه النخلة وتشرب من الماء.
قال سبحانه:{وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ}[المؤمنون:٥٠]، (ربوة) بفتح الراء، وهذه قراءة ابن عامر وعاصم، وقراءة باقي القراء:(إِلَى رِبْوَةٍ) ففيها لغتان.
وقوله:{ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}[المؤمنون:٥٠]، (قرار) البعض يرققها مثل الأزرق عن ورش، وحمزة أيضاًً يقرؤها بالإمالة أو بالتقليل، وغيرهم يقرءونها بالإمالة، وهم أبو عمرو وابن ذكوان وبخلفه والكسائي، وورش وحمزة يقللونها، وباقي القراء يقرءونها:((قَرَارٍ)) بالفتح، إذاً: فيها ثلاث قراءات.