[الأدلة على سعة رحمة الله]
الأحاديث التي جاءت في رحمة رب العالمين كثيرة جداً، وهي تدل على رحمته سبحانه لمن أذنب وأسرف على نفسه ثم راجع نفسه فتاب إلى الله سبحانه وتعالى.
ومن هذه الأحاديث ما رواه الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري وهذا لفظ الإمام مسلم وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟!).
والراهب هو العابد من النصارى، وكون الإنسان عابداً، لا يشترط أن يكون عالماً، فقد يكون الإنسان كثير العبادة لكنه يجهل كثيراً من أحكام رب العالمين، فلما ذهب إليه هذا الإنسان المذنب المسرف على نفسه وقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ (قال: لا، فقتله فكمل به المائة!) وهذا حال اليائس من رحمة الله سبحانه: فلسان حاله يقول: طالما أنني ليس لي توبة، فسوف أقتلك أيضاً، فقد قتلت تسعة وتسعين نفساً فلا يضيرني أن أكمل المائة! (ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟) إن هذا إنسان شرير ولكن في نفسه ما يدفعه إلى الخير، وما يدفعه إلى التوبة وهو يريد أحداً يدله على أن يتوب إلى الله.
(فقال له العالم: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟! انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناساً يعبدون الله، فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء) فهذا الإنسان الشرير كان في أرض فيها أشرار، يساعد بعضهم بعضاً على الشر، لذلك الذي يتوب لا بد أن يمتنع عن مرافقة الأشرار الذين كان معهم قبل ذلك، أما إنسان يقول: أنا تائب وهو لم يزل مع رفقائه الذين كان يمشي معهم كقطاع الطريق وأهل الإدمان وأهل المخدرات، فهذا لا يدل على توبته، فإن التائب يقلع عن ذلك، ويبتعد عن رفقاء السوء؛ لأنهم يغوونه ويردونه إلى ما كان فيه، فهذا العالم قال له: من يحول بينك وبين التوبة؟! ولكن أنت مع أناس أشرار، فأقلع عن الشر وابتعد عن أهل الشر، واذهب إلى الأرض الفلانية فإن فيها أناساً صالحون، فاعبد الله معهم.
فالرجل تاب إلى الله عز وجل وترك هؤلاء وهاجر إلى البلاد الأخرى ليعبد الله.
(فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب) عندما هاجر من الأرض التي فيها أشرار وهو تائب توبة صادقة، ودليل توبته أنه خرج من أرضه إلى أرض أخرى؛ ليعبد الله عز وجل فيها، فلما نصف الطريق، مات فجاءت ملائكة الرحمة وملائكة العذاب يختصمون، يعني: يجادلون.
(قالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله) فهذه نية التائب إلى الله.
(وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم) هذا كله من الله عز وجل ليرينا سبحانه وتعالى أنه غفور رحيم، وتختصم الملائكة ليرينا أنهم لا يعلمون الغيب، وأرسل الله عز وجل إليهم من يحكم بينهم ليرينا سبحانه وتعالى أن الحكم له وحده، وأن الملائكة لا تقدر أن تحكم في شيء إلا أن يعلمهم الله سبحانه وتعالى، والملائكة تخاف من ربها سبحانه، {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:٢٧] فجاء هذا الملك في صورة آدمي يفصل بين ملائكة الرحمة وملائكة العذاب.
(فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له فقاسوا) هذا لفظ الإمام مسلم.
وفي لفظ الإمام البخاري: (أنه لما أدركه الموت ناء بصدره نحوها) أي: وهو يموت انحرف بصدره شيئاً لكي يقترب من أرض الرحمة.
وفي لفظ آخر: (أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى الأرض أن تضايقي من هاهنا واتسعي من هاهنا) يعني: تباعدي من أرض العذاب، وتقاربي من أرض الرحمة وكله بيد الله سبحانه، فالعبد عبده والأرض أرضه والسماء سماؤه والملائكة ملائكته سبحانه وتعالى، وهو بهذا يرينا رحمته.
(فقاسوا ما بين الأرضين فكان أدنى إلى الأرض التي أراد وهي أرض الرحمة، فقبضته ملائكة الرحمة).
وهذه الحادثة أراد بها الله سبحانه أن يرينا رحمته العظيمة سبحانه، فإذا كان العبد الذي قتل مائة نفس له توبة، فكيف بغيره؟! فمن تاب تاب الله عز وجل عليه، ولكن لا ننسى أبداً أن التوبة لا بد فيها من الصدق، فالتوبة ليست كلاماً، يقول الإنسان: أنا تبت إلى الله عز وجل، بل لا بد من صدق القلب؛ ولذلك هذا العبد لما أراد أن يتوب وذهب إلى الراهب يأسه الراهب من التوبة، فمن قهره على أنه حرم من التوبة قتل الراهب أيضاً، فهو قتل تسعة وتسعين نفساً؛ لأنه إنسان شرير وغير صالح، فلما دله العالم على أن له توبة، تاب إلى الله فصدق، فنفعته التوبة.
فإن قيل: والذين قتلهم ما مصيرهم؟
الجواب
لا يضيعون عند الله عز وجل، ولكن الله الحكم العدل سبحانه، خزائنه ملأى، والله بيده الرحمة وبيده العذاب، عفا عن هذا وأعطى هؤلاء، إذا كان في الدنيا الإنسان الذي يقتل له قتيل له أن يأخذ الدية ويعفو عن القاتل، فكيف بالآخرة والكل يحتاج إلى جنة الله وثواب الله ورحمة الله، فالله يرضي هؤلاء، بقوله: أعذب هذا أو أدخلكم الجنة، فالإنسان يقول: أدخلني الجنة، ماذا سأستفيد من عذاب هذا الإنسان؟ فيعطيه الله سبحانه وتعالى برحمته الواسعة، فالإنسان الذي يفعل الذنب له توبة إذ تاب إلى الله، وصدق في توبته، أما الإنسان الذي يحتال ويكذب ويخدع إنما يخدع نفسه ولا يضر ربه شيئاً سبحانه وتعالى.
فعندما نأخذ أحاديث الرحمة لا ننسى ما جاء في عذاب الله سبحانه وتعالى، فالمؤمن بين الخوف وبين الرجاء.
ومن الأحاديث العظيمة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في التوبة، ما رواه الإمام الترمذي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي).
(ما دعوتني) يعني: طالما دعوتني، ورجوتني سأغفر لك، فالعبد الذي يكثر من الدعاء: يا رب! اغفر لي، يا رب! تبت إليك، ويؤنب نفسه ويحاسبها، يقول له ربه: أغفر لك طالما عرفت أنك مخطئ وتبت إلي، فإذا تاب العبد إلى الله تاب الله عز وجل عليه.
(يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي) الله عظيم سبحانه وتعالى ولا يتعاظمه ذنب، وكونه يغفر لعبده فإن ذلك لا يضره شيئاً.
ومهما عملت من المعاصي وتبت إلى الله سبحانه وتعالى غفر لك ذنوبك حتى لو كانت قد بلغت عنان السماء.
(يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب) (بقراب): أي بملء.
(الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) إذا جاء العبد تائباً إلى ربه سبحانه موحداً له عالماً به وبأسمائه الحسنى وصفاته العلى، فإن الله يتوب عليه مهما عمل، فالتوبة الصادقة جزاؤها من الله المغفرة.
ومن الأحاديث العظيمة الجميلة في هذا المعنى ما رواه الإمام مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أنكم لم تكن لكم ذنوب يغفرها الله لكم، لجاء الله بقوم لهم ذنوب يغفرها لهم) أي أن ابن آدم كتب عليه نصيبه من الوقوع في المعصية، (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن أسماء الله الحسنى: الغفور لمن يعصي ربه سبحانه، فلا بد أن يحقق مقتضى هذا الاسم من أسمائه.
ومن أسمائه الحسنى الرحيم الذي يرحم خلقه سبحانه وتعالى؛ ولذلك جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل: (قال: أذنب عبد ذنباً، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي) وعندما تقع في الذنب، بادر بالتوبة إلى الله عز وجل، واعترف بذنبك وتقصيرك، وتحلل ممن أسأت إليه، ورد المظلمة إلى أصحابها، وارجع إلى ربك سبحانه، فلما رجع العبد إلى ربه سبحانه قال تبارك وتعالى: (أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به) (علم) بمعنى: استقين أن الله يحاسب على الذنب؛ لذلك تاب، فلما تاب غفر الله له سبحانه، (ثم عاد فأذنب ذنباً)، وكل بني آدم خطاء، الإنسان قد يقول: أنا تائب إلى لله من هذا الذنب ولن أعمل هذا الذنب مرة أخرى، وبعد ذلك يغلب عليه شقاؤه فيقع في الذنوب، ثم يراجع نفسه فيتوب إلى الله عز وجل، فهذا أذنب مرة ثانية.
(فقال: أي ربي!) يعني: يا ربي!.
(اغفر لي ذنبي، فقال الله تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنباً فعلم أنه له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب ذنباً، فقال: أي ربي! اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك!)، فرحمة الله وسعت كل شيء، وطالما تاب العبد إلى الله، واستيقن أنه سيعذبه عليه أن يرجع ويتوب توبة صادقة إلى الله سبحانه، فلا ييئس ولا يقنط من رحمة الله، بل يبادر بالتوبة إلى الله، فإن الله يغفر الذنوب سبحانه وتعالى؛ لذلك يجب على المؤمن أن يراجع نفسه دائماً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها).
فعندما تعمل السيئة أتبعها مباشرة بحسنة حتى تمحو هذه السيئة، أما أن الإنسان يقع في الإساءة ويظلم الخلق، ويقع في الذنوب كبائرها وصغائرها وبعد ذلك يستهين ويقول: الله غفور رحيم، فهذا لا يدخل تحت هؤلاء؛ لأن العبد قال: يا رب! رجعت إليك، تبت إليك، أنا أذنبت ذنباً، اغفر لي؛ فالله عز وجل يغفر له؛ لأنه رجع إلى ربه تائباً.
والنية في قلب الإنسان والصدق في قلبه لا يطلع عليه إلا ربه سبحانه، فإن صدق العبد في توبته تاب الله عز وج