تفسير قوله تعالى: (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الروم: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ * فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [الروم:٤٨ - ٥٢].
يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن رحمته في إرساله الرياح وإنزاله الأمطار بفضله وكرمه سبحانه، ويخبر عن تكوينها فيقول: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} [الروم:٤٨]، و (الله) هو الإله المعبود الذي خلق ورزق، والذي يرسل الرياح سبحانه وتعالى.
وقوله: (الذي يرسل الرياح) أي: هو الرب الفاعل القادر سبحانه وتعالى، وهو الصانع المربي، فالله كونه إلهاً فهو يستحق أن يعبد سبحانه وتعالى، فيعبر بلفظ الجلالة (الله) يعني: المعبود المستحق للعبادة، ويعبر عن ذلك بصفات الرب سبحانه وتعالى، فكونه رباً مقتضاه: أنه يخلق ويرزق، وأنه يفعل ما لا يقدر أحد على فعله إلا الله سبحانه وتعالى، فمن مقتضى ربوبيته أنه يرسل الرياح، وأن هذه الرياح تثير السحاب، وأن الله يبسط هذا السحاب في السماء كيف يشاء بقضائه وقدره.
قال تعالى: {وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [الروم:٤٨] فهكذا يكون التكوين للأمطار بقدرة الرب سبحانه وتعالى، فالرب الذي يصنع هذا يستحق أن يعبد دون غيره من آلهة تعبدونها، لا يستطيعون أن يصنعوا شيئاً فهم اتخذوا من دون الله آلهة، فإذا سئلوا: هل هذه الآلهة تخلق وترزق؟ يقولون: لا، لا تصنع شيئاً، وإذا سئلوا من الذي يصنع ذلك؟ يقولون: الرب الذي في السماء سبحانه وتعالى يصنع ذلك، فيقال لهم: كيف يكون الرب هو الذي يصنع وترجون رحمته سبحانه أن ينزل عليكم المطر من السماء، وأن ينبت لكم الزروع والثمار، وأن يعطيكم أرزاقكم سبحانه، ثم تؤلهون غيره، فتدعون إلهاً غير الله، أو تشركون مع الله سبحانه وتعالى أحداً غيره؟! فعبر ربنا بقوله: (الله) أي: الإله الذي يستحق العبادة هو الذي يصنع ذلك، وهو الذي يرسل الرياح.
والرياح هي التي تثير السحاب، وتحرك السحاب من مكان إلى مكان، وهي التي تكون هذا السحاب بأمر الله سبحانه وتعالى.
فمياه الأمطار تكون على الأرض منها البحيرات، وهذه البحار الموجودة وغيرها من المياه تصعد إلى السماء بالتبخر، وتحملها الرياح شيئاً وشيئاً حتى تصعد إلى السماء كما عبر الله سبحانه وتعالى هنا، وعبر في سورة النور فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} [النور:٤٣].
وهذه من دلائل قدرة الله سبحانه وتعالى مع تذكيره الناس بقضائه وقدره، فالله يقدر ما يشاء ولا شيء يكون إلا بقدره وتقديره سبحانه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فالسحاب يمتلئ بالمياه، ويشاء الله أن ينزل منها المطر فيكون ذلك، وقد يصرفه عمن يشاء، فتكون السحابات قد غيمت وامتلأت، والناظر ينظر إليها في السماء ملآنة بالمطر، فيظن نزول المطر فإذا بالسحابات تنصرف إلى مكان آخر، ولا ينزل المطر على هذا المكان الذي ظن أهله أن ينزل عليهم المطر، لذلك ليس كون السحابة مغيمة أو ممتلئة بالماء بلازم أن تنزل في هذا المكان، ولذلك يقول الله تعالى: {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} [النور:٤٣]، فالأمر راجع إلى قضاء الله وقدره، وقد ينظر الإنسان إلى الشيء في متناول اليد، فيذهب ليأخذه فيضيع منه هذا الشيء، فالله يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، وكم من إنسان يرفع اللقمة إلى فمه، فتقع اللقمة على الأرض فما يأكلها مرة أخرى، {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} [النور:٤٣] سبحانه تبارك وتعالى.
فالإنسان ينظر في حكمة الباري سبحانه وفي قدرته وفي آياته العظيمة، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وعبر الله عن السحاب في هذه الآية بقوله: (يجعله كِسَفاً)، وقال في سورة النور: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [النور:٤٣]، والودق بمعنى المطر، يعني: قطرات المطر تخرج من خلاله.