الأصل أن الميت انقطع عن هذه الدنيا فلا يسمع شيئاً من أمر الدنيا، وأن الأموات في قبورهم إذا جاء عليهم ميت جديد تلتقي أرواحهم عند الله سبحانه تبارك وتعالى في البرزخ، فيسألون هذا الذي جاء عليهم: ما فعل فلان؟ ما فعل فلان؟ ما فعل فلان؛ لأن الأموات لا يعرفون شيئاً عن الدنيا إلا بما يخبرهم من ذهب إليهم من الأموات، فإذا كان الميت من أهل الإيمان؛ التقت روحه مع أرواح أهل الإيمان في وقت يشاء الله سبحانه تبارك وتعالى، فيسأل أهل القبور هذه الروح التي جاءت إليهم: ما فعل فلان؟ يقول: تزوج، ما فعلت فلانة؟ يقول: تزوجت، ما فعل فلان؟ فيقول أما جاءكم؟ فيقولون: ذهب به إلى أمه الهاوية، فما دام أن فلاناً مات ولم يأت إلينا في هذا المكان الذي فيه أرواح المؤمنين، فقد ذهب به إلى الجحيم والعياذ بالله, فقوله سبحانه:{إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}[النمل:٨٠] يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمع الموتى ولا غيره يسمعهم، إلا أن يشاء الله سبحانه تبارك وتعالى، كما أذن الله سبحانه تبارك وتعالى لنبي من أنبيائه في إحياء الموتى بإذن الله، وهو المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولم يأذن له بإحياء كل الموتى ولكن بإحياء ميتٍ ليكون آية من آيات الله سبحانه تبارك وتعالى، فالأصل أن الميت لا يرجع إلى الدنيا أبدا ولكن الله سبحانه يجعل معجزة لأحد من خلقه في ذلك؛ لإثبات نبوته ورسالته عليه الصلاة والسلام, وكذلك نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فقد جعل الله عز وجل له معجزات كثيرة، من ضمن هذه المعجزات أنه أسمع الموتى في بدر، فقد جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه:(أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش فقذفوا في طوي من أطوى بدر خبيث مخبث) أي: أن أربعة وعشرين رجلاً من قتلى الكفار، قتلوا في المعركة فأنتنوا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرموا في بئر من الآبار المفتوحة وطم البئر عليهم فقال:(قذفوا في طوي من أطوى بدر خبيث مخبث) أي: بئر ليس عليها سور ثم قال: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليالي) والعرصة: هي الأرض المنبسطة يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انتصر على قوم أقام بأرض المعركة ثلاثة أيام (فلما كان ببدر اليوم الثالث، أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى واتبعه أصحابه وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته) يتساءلون أين يريد النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الثالث وهو في مكان بدر؟ قال أنس:(فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم حتى قام على شفة الركي) أي: البئر التي ألقي فيها هؤلاء الكفار، (فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء أبائهم يا فلان ابن فلان! أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله) أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينادي عليهم وقد دفنوا قبل ثلاثة أيام فيقول: (يا فلان ابن فلان! ويا فلان ابن فلان! هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقال عمر يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما تكلم من أجساد لا أرواح لها!) أي: أنت تكلم أجساداً ليس فيها أرواح فلن يسمعوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر:(والذي نفس محمدٍ بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) فدل على أن الله عز وجل في هذا الوقت وفي هذه الحالة أسمعهم نداء النبي صلوات الله وسلامه عليه، قال قتادة الراوي عن أنس: أحياهم الله حتى أسمعهم قول النبي صلى الله عليه وسلم توبيخاً وتصغيراً وحسرة وندماً.
هذا لفظ الإمام البخاري، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم:(نادى عليهم وعمر كأنه تعجب من ذلك فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يخبر أن الله أسمعهم ما قاله) صلوات الله وسلامه عليه، وجاء في حديث آخر رواه الإمام البخاري ومسلم أيضاً من حديث هشام بن عروة عن أبيه أنه ذكر عند عائشة رضي الله عنها أن ابن عمر رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم:(إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله عليه) فلما قالوا ذلك لـ عائشة رضي الله عنها قالت: وهل أي: لم يأخذ انتباهه، والوهل: أن يسرح الإنسان عن الأمر فيتكلم عن شيء بغير ما هو عليه، فكأن عبد الله بن عمر وهل أخطأ في حدسه وفي ظنه حيث ظن أن الكلام على شيء وهو على شيء آخر، وهذا قول عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها، ثم قالت: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه ليعذب بخطيئته وذنبه، وإن أهله ليبكون عليه الآن قالت: وذاك مثل قوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال: إنهم ليسمعون ما أقول، إنما قال: إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق).
ثم قرأت {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}[النمل:٨٠]{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}[فاطر:٢٢] فأنكرت عائشة رضي الله عنها أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أسمع أهل القليب، واحتجت بقول الله سبحانه {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}[النمل:٨٠] وقوله سبحانه: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}[فاطر:٢٢] وخطأت عبد الله بن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، بمجرد الرأي وهذا فيه نظر؛ لأن ابن عمر رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فـ ابن عمر قد سمع هذا من أبيه عمر يحكي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقال أن ابن عمر سمع ذلك من النبي صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه كان صغيراً رضي الله عنه حين وقعت معركة بدر فلم يحضر مع النبي صلى الله عليه وسلم بدراً، وإنما حضرها عمر، وهو الذي تعجب من نداء النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء فسمع ابن عمر هذا الذي حدث به من أبيه عمر رضي الله وتبارك وتعالى عنه، كما أن القاعدة أنه إذا أثبت الراوي عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ونفى آخر فالمثبت مقدم على النافي؛ لأن المثبت حجة على النافي, كما أن النافي ليس معه علم بالأمر وغاية ما ظهر من نفيه أنه لا يعلم أما المثبت فمعه علم جديد، وهنا أنكرت عائشة رضي الله عنها وقالت: وهل ابن عمر رضي الله عنه وخطأته في حديثه، والظاهر أن الصواب مع ابن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه, وأن عائشة رضي الله عنها غاية مقالها أنها احتجت بالآية, حيث تقول:{إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}[النمل:٨٠] وهو استدلال صحيح، فإن النبي لا يسمع الموتى، ولكن لا مانع من أن يحيي الله عز وجل له بعضهم حتى يسمعوا منه صلوات الله وسلامه عليه, فيكون الأصل: أنه لا يسمع الموتى صلوات الله وسلامه عليه ولا يسمع من في القبور، ولكن أسمعهم النبي صلوات الله وسلامه عليه في هذه الواقعة فحسب كما قال ابن عمر وجاء عن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين ناداهم:(ما تسمع من أجساد قد جيفت؟ أو ما تسمع من أموات لا أرواح فيهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون) ففي الحديث أن عمر أنكر على النبي صلى الله عليه وسلم حين سمعه يكلم الموتى، وفي هذا دليل على أن عمر وعى وعرف من النبي صلى الله عليه وسلم أنهم سمعوا كلامه، أما عائشة رضي الله عنها؛ فإنها لم تحضر الحدث، وإنما أنكرت احتجاجاً بالآية، والآية عامة، والعام يجوز تخصيصه فيكون المعنى:{إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}[النمل:٨٠] إلا أن يشاء الله عز وجل، فالله عز وجل أسمع له صلوات الله وسلامه عليه هؤلاء الكفار وهم في قبورهم.