[عودة الضمير في الجمل المتعاطفة]
اختلف العلماء إذا تعاطفت جمل ثم جاء الاستثناء بعد ذلك هل يعود هذا الاستثناء للجميع إلا ما أخرجه الدليل، أو يرجع إلى آخر مذكور قبله؟ فعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه يعود إلى آخر مذكور فقط دون الباقي، وعند الجمهور أنه يعود إلى الجميع إلا إذا دل الدليل على إخراج أحد المذكورين من هذا الاستثناء.
وبناءً على ذلك، فيكون عند الجمهور {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:٤] أي: يقذفون المحصنات بجريمة الزنا: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:٤]، وبإجماع أهل العلم أنه لو طلب المقذوف أو المقذوفة من القاضي أن يقيم الحد على فلان لأنه قذفه، فإنه لا يسقط الحد عن هذا القاذف ولو تاب.
((وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) عند الإمام أبي حنيفة أن الاستثناء: في قوله: ((إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا))، يعود على أقرب مذكور، فلا يكون القاذف فاسقاً إذا تاب، ولكن لا تقبل له شهادة حتى ولو تاب، ويقال عنه: هذا عدل وليس بفاسق.
والجمهور يقولون: طالما أنه صار عدلاً وليس فاسقاً، إذاً فتقبل شهادته.
وذكرنا آيتين أخريين في كتاب الله عز وجل: الآية التي في الحرابة: وهي أن يعمد رجل أو مجموعة رجال فيقطعون على المسلمين طريقهم، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:٣٣].
إن العقوبة التي فرضها الله سبحانه عليهم جعلها خزياً لهم في الدنيا، وعقوبة لهم يوم القيامة فإن لهم عقوبة أخرى عند الله عز وجل: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:٣٣ - ٣٤].
فهنا اتفق العلماء على أن التائب من هذه الجريمة يسقط عنه هذا الحد، فقطاع الطريق على المسلمين إذا قدر عليهم الإمام أو نائبه قبل التوبة فإنه ينكل بهم يطبق عليهم هذه الأحكام، لكن إذا لم يقدر عليهم فقد جعل الله عز وجل لهم حكماً آخر وهو: أنه فتح لهم باب التوبة، ولو تاب هؤلاء وعرفوا أنهم سيقام عليهم الحد المذكور في الآية فلن يتوبوا، وسيظلون على ما هم يقطعون الطريق، ويزدادون عتواً فالله عز وجل من رحمته وحكمته أن جعل هؤلاء لو تابوا فإنه يسقط عنهم الحد، واتفق أهل العلم على ذلك.
قالوا: فبناءً على ذلك فقوله: ((إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ)) هذا استثناء، وهو يرجع إلى جميع المذكورات قبل ذلك: من أنهم لا يقتلون، ولا يصلبون، ولا تقطع أيديهم ولا أرجلهم من خلاف، ولا ينفوا من الأرض، هذا في سورة المائدة.
وفي سورة النساء ذكر الله عز وجل قتل المؤمن خطأ: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء:٩٢] إلى آخر الآية، فذكر هنا شيئين: تحرير الرقبة المؤمنة، والذي لا يجد الرقبة المؤمنة عليه أن يصوم شهرين متتابعين، والأمر الثاني: دية مسلّمة إلى أهله، قال: {إِلَّا أن يصدقوا} [النساء:٩٢].
وإذا تصدق أهل القتيل هل تسقط عنه الكفارة؟ قال أهل العلم: لا تسقط عنه الكفارة؛ لأن الكفارة لازمة له، ولكن إذا تصدقوا بالدية سقطت الدية فقط فلا تؤخذ منه الدية، ويلزمه الكفارة وهي عتق رقبة، وإن لم يجد فصام شهرين متتابعين.
ولما جاء كان الاستثناء في القرآن يعود مرة إلى جميع المذكورات، ومرة يعود إلى آخر مذكور، اختلف العلماء في ذلك، والبعض قال: نتوقف حتى يأتي دليل آخر يبين هل يعود الضمير إلى الأخير أو إلى غيره.
لكن الراجح أن الأصل في الاستثناء إذا تعاطفت جمل أنه عائد على جميع الأشياء السابقة إلا لدليل يخرج أحد هذه الأشياء أو بعض هذه الأشياء.